الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

قصيدة النثر بالإمارات.. وحداثة الواقع

قصيدة النثر بالإمارات.. وحداثة الواقع
28 نوفمبر 2019 03:29

شاكر نوري

مما لا شك فيه، أن المجتمع الإماراتي، وهو جزء من المجتمع الخليجي، شهد تحولات ثقافية واجتماعية متسارعة وعميقة، أثرت على التجربة الإبداعية، وبرز الصوت الشعري منذ السبعينات مع الشعر العمودي، ثم انتقلت الكتابة الإماراتية الحديثة إلى شعر التفعيلة مبكراً على يد أحمد أمين المدني وحبيب الصايغ وظبية خميس، ثم جاء جيل الثمانينات الذي بدا أكثر جرأة وتجريباً، فحقق نقلة أخرى في مجال تجربة قصيدة النثر. وعمل الانفجار المعلوماتي على توسيع آفاق الشاعر، وأخرجه من المصدر الواحد إلى المصادر المتعددة، وكان للتغيير في نمط حياة البشر أثر كبير في بنية العمل الابداعي، وخاصة قصيدة النثر التي أثارت الكثير من الجدل قبل أن تترسخ جذورها في المجتمع الإماراتي.
لم تشكل قصيدة النثر التي ظهرت في الثمانينات أي تناقض بينها وبين المؤسسات الثقافية في دولة الإمارات، بل سارت بخطوط متوازية معها، حيث عملت الملاحق الثقافية للصحف على نشرها والاعتراف بها.
كما أثرت قصائد شعراء الحداثة على مجمل الإبداع في فنون الكتابة وخاصة الحديثة منها. فتح هؤلاء الشعراء عيونهم على الحداثة من خلال ما توصلت إليه الإمارات من تطور وازدهار، ولم يرفضوا التراث بل نهلوا منه، من أجل صياغة قصيدة تحمل التمرد في أرواحهم، فنحتوا من الكلمات أحلامهم، من دون نكران القصيدة التقليدية، أي الشعر العمودي ولا شعر التفعيلة، بل اختاروا كلماتهم بدون تزويق أو زخرفة لغوية مبتعدين قدر الإمكان عن تشوهات البلاغة. فالجيل الإماراتي الذي خاض غمار كتابة قصيدة النثر، لم تكن أعماره تزيد على الثلاثين عاماً، وتفتحت موهبتهم على حداثة الواقع الذي يعيشون فيه. وهكذا وجد هؤلاء الشعراء أنفسهم في قلب الحداثة العربية لأنهم قرأوا أغلب رموزها وأعلامها وتتلمذوا على أيديهم، لكنهم نهلوا من واقعهم الكثير، لذلك نمت القصيدة الحداثية في هذه التربة بعيداً عن تأثيرات الهيمنة.

موجات الحداثة الشعرية
انطلقت الحداثة الشعرية الإماراتية على شكل موجات، الواحدة تدفع الأخرى، مع تأسيس الدولة، ومن أبرز شعرائها في السبعينات: أحمد أمين المدني، هاشم الموسوي، عباس العصفور، حبيب الصايغ، محمد العبودي، هالة معتوق وغيرهم حيث وضعت أسس قصيدة النثر التي استلهم منها الجيل التالي، وهو يشكلُ الموجة الثانية من أمثال أحمد راشد ثاني، وظبية خميس، وعارف الخاجة، ونجوم الغانم، وخالد بدر عبيد، وآخرين. هؤلاء ربطوا الخيوط ببعضها بعضاً من أجل إخراج قصيدة النثر في ثوبها الجديد ولكن التطور لم يتوقف عندهم، إذ سرعان ما ظهر جيل آخر أو ما يمكن أن نطلق عليه الموجة الثالثة من الشعراء أمثال عبدالعزيز جاسم، إبراهيم محمد إبراهيم، ظاعن شاهين، كريم معتوق، ثاني السويدي، ميسون صقر القاسمي، محمد المزروعي، إبراهيم الهاشمي، عادل خزام، خلود المعلا، صالحة غابش، إبراهيم الملا، عبدالله عبدالوهاب، الهنوف محمد، عبدالله السبب، أحمد العسم، وآخرون. وبعد ذلك بسنوات، ظهرت الموجة الرابعة من الحداثة وبرز فيها شعراء شباب أمثال: محمد حسن، وهاشم المعلم، وسعد جمعة، أحمد المطروشي، خالد الراشد، جمال علي، عيسى عباس، وآخرون.
لا يخضع هذا التقسيم إلى موضوع الأجيال لأن كل شاعر منهم كان يكتب وكأنه في جزيرة معزولة، مثل ممثل وحيد على المسرح، لذالك لم تتبلور حركة شعرية ولم تحمل أي اسم، لأن كل شاعر من هؤلاء جسّد صوته المتفرد، بحثاً عن الموسيقى واللغة والجديد. فلم تكن حداثة الشعر الإماراتي تعير اهتماماً للزمن، فقد تداخلت تلك الموجات واستمر الجميع على الكتابة، ونشر إبداعاتهم الشعرية على الصفحات الثقافية التي ازدهرت بها الصحف المحلية، مع تأسيس بعض المجلات الأدبية مثل «نوارس» و«رؤى» و«هذيان قلم» وغيرها التي لم يُكتب لها الاستمرارية. ولم تكن آنذاك قد برزت دور نشر إماراتية تنشر لشعراء الحداثة قصائدهم، فكانوا ينشرونها في دور النشر العربية في سوريا ولبنان ومصر مما أتاح لزملائهم الشعراء العرب الاطلاع على القصيدة الإماراتية الحديثة والتفاعل معها.

تحديات قصيدة النثر
رغم ما حققته قصيدة النثر في الإمارات من إنجازات إبداعية وجمالية، لكن الجدل بصددها ظل قائماً، حتى ذهب البعض إلى القول إنها إلى موات وزوال، لكن تواجد الشعراء على الساحة بدد هذه الأوهام، فقد توالى صدور المجاميع الشعرية منذ الثمانينات وحتى الوقت الحاضر. وقد ترسخت جذورها في المشهد الثقافي الإماراتي والعربي في آن واحد. وهناك عشرات من الشعراء والشاعرات، ومئات من الدواوين والمجموعات الشعرية وآلاف من قصائد النثر، الحصيلة النهائية. إضافة إلى وجود قصيدة النثر في المعارك الأدبية، وهذا دليل عنفوانها، فهي لم تتجاوز إرهاصاتها فقط بل أصبحت مؤثراً كبيراً في رسم أدب الحداثة في الدولة التي شهدت عصر الازدهار والتقدم والانفتاح، خاصة في مجال إنجاز مجتمع المعرفة والحكومة الذكية وغيرها من الإنجازات. أما ما يذهب إليه بعض النقاد من تراجع قصيدة النثر فهو جزء من تراجع الشعر عامة بسبب طغيان وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة. وقد أثبتت قصيدة النثر نفسها بدخولها في تاريخ الشعرية الحديثة بجدارة وتألق. ولم تواجه أي إهمال رسمي من قبل المؤسسات الثقافية كما يدعي البعض، بل إنها أصبحت الغالبة على مستوى الحراك والكتابة الشعرية، وفرضت نفسها على الواقع الثقافي حتى أن القصيدة التقليدية تراجعت أمامها في بعض الأحيان كما يذهب الناقد صالح هويدي.
لماذا لجأ الشباب الإماراتي إلى كتابة قصيدة النثر مبكراً، هل لأنها تريد التخلص من القواعد التي تخنق روح الشعر: القافية، الوزن، النظم الكلاسيكي، وغير ذلك؟ أم أنها جاءت تلبية لواقع ثقافي مزدهر يؤمن بالتطور واثق من نفسه؟

تجارب شعرية بارزة
لم تنس قصيدة النثر المكان الذي انطلقت منه، كعنصر حيوي في ارتباطاته الواقعية، وكل شاعر ارتبط بعالمه، حيث تركزت تجربة الشاعر أحمد راشد ثاني على إدخال الأدب الشعبي والشفاهي في قصائده، متنقلاً بين الصحراء والبحر كما يقول في قصيدته «أي موجة»: يصفونَ لي الصحراء/‏‏ وينسونَ حبةَ رمل، في موجةٍ مازالت تركض على البحرِ/‏‏ يصفونَ خطواتي الكثيرة/‏‏ على شاطئ البحر/‏‏ بينما لا يعرف البحر/‏‏ في أي موجة غَرِقْت. ولا يمكن قراءة قصائد عبدالعزيز جاسم دون ذكر البحر، ورأس الخيمة ومفرداته الغزيرة، وأبعاده الرمزية والفلسفية كما في مجموعته «لا لزوم لي»، فالبحر ذاكرة وطفولة وسحر وحكاية وأسطورة، معبراً عن جنون القصيدة في الذات، ولا يمكن الحديث عن هذا الشاعر بعيداً عن مجموعته الشعرية الأولى «لا لزوم لي»، فهي خلاصة تجربته الشعرية في البحث الوجودي والصوفي من خلال إثارة أسئلة العصر الحارقة. في قصيدة طويلة بعنوان «اليأس ذو العيون الصّفراء كالذهب» يقول: «العين دلفين/‏‏ والدلافين طفل البحر. قلتُ لكم هذا، وأوغلتُ في الغناء. وقلتُ بأن النوارس لا توزع عنباً على الغرقى، وإنّ الأنفاس ستظل وحيدة ولن تجد من يساندها عند المنحدرات، وقلتُ بأنّ الأشجار توأمنا، وهذا الكتاب المفتوح ضّدنا لن يسعف العيون التي فسدت».
ولكل شاعر حداثي إنجازه ورؤيته، فعلى سبيل المثال، يعمل الشاعر عادل خزام على اللغة وارتباطاتها بالمجرد والمحسوس، من دون حدود أو شروط لتحقيق الشاعر لذاته، ولا يخلو عالمه من الصوفية والتجريدية، فيما يذهب الشاعر سعد جمعة إلى اعتبار القصيدة اكتشافاً جديداً عبر الكتابة الإبداعية، بكل ما فيها من تأمل حياتي وكوني، ذاتي وموضوعي.
هذه أمثلة ونماذج سريعة لأنه لا يمكن سرد تجارب شعراء قصيدة النثر، في هذه المساحة الضيقة، ولكن يمكن القول بأن قصيدة النثر الإماراتية تميزت بالإيجاز والاختزال والتكثيف، والتجريب والابتعاد عن البلاغة المتوارثة، وهي سمة تجمع بين الشعراء الرواد في كتابة هذه القصيدة، وثمة ميزة مهمة أخرى وهي الثورة ضد القوالب الجاهزة مع التآلف مع مستجدات الواقع الشعري الذي لم يكن بمنأى عن التأثيرات الحداثية العربية. وفي نهاية المطاف، انجذبت قصيدة النثر الإماراتية إلى الإنسان ودواخله وأحزانه وهمومه، من خلال طرح الكثافة الشعرية، والخيال الجامح، والرموز التراثية، فأصبحت الحداثة بالنسبة للشعراء الإماراتيين هي الحلم والأفق الرؤية، التي يطرحون من خلالها أسئلتهم الوجودية واللغوية والجمالية. ولعل أهم ما ميّزهم هو رفض أبويّة الشعر التقليدي، لأنه كان يخنق أصواتهم ويربطهم بموضوعات قديمة ومستهلكة. وقد تهيأت لهذا الرفض الحرية التي أتاحها الواقع الثقافي وما شهدته الإمارات من تحولات البنى الفكرية والاقتصادية منذ تأسيس الدولة، ولا يمكن أن يبرز أي جديد بدون وجود الحرية. وهكذا خاض الشعراء الإماراتيون تجربتهم الابداعية بعيداً عن القيود والشروط.

قصيدة النثر تتصالح
مع الأشكال الأخرى
ولو عدنا إلى جذور قصيدة النثر في العصر الحديث، وتحديداً في القرن العشرين، نرى أنها لم تظهر من الفراغ، بل هناك خلفية لذلك، فقد برز شعراء عموديون كبار في الإمارات أمثال الشاعر سالم بن علي العويس، والشاعر صقر بن سلطان القاسمي، والشاعر سلطان العويس. فكان الشعر العمودي الفصيح وشعر التفعيلة والشعر النبطي «الشعبي» يعيش جنباً إلى جنب ولكل لون جمهوره وأنصاره. ولم يكن هناك أي تفريق بين هذه الأنماط الشعرية سوى الشعر وحده، بما يحتوي عليه من وجدانيات ورؤى وكلمات. ولابد من الاعتراف أن القصيدة العمودية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ الأدبي في المنطقة، يعود إلى عصر الجاهلية. وقد ظهر شعراء أفذاذ في أرض الإمارات ومنطقة الخليج العربية، وعاشوا وتربوا على تقاليد الشعر وإنجازاته. وإلى جانبها، ولد شعر التفعيلة وقصيدة النثر تقودها كوكبة كبيرة من الشعراء الإماراتيين، وهم شعراء الحداثة حيث لاقوا ترحيباً من المؤسسات الثقافية الرسمية في الدولة، وفتحت لهم أبوابها، ونظمت لهم الأمسيات الشعرية المتواصلة وأصدرت دواوينهم الشعرية وأحاطتهم بكل رعاية واهتمام، منها وزارة الثقافة، واتحاد كتاب وأدباء الإمارات والمجمع الثقافي بأبوظبي وغيرها من المؤسسات.

قصيدة النثر وفنون الكتابة
هل يمكن القول إن قصيدة النثر الإماراتية ولدت وتقوقعت في محيطها أم أنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ عن الحداثة العربية والعالمية؟ المعروف أن قصيدة النثر استطاعت في فترة زمنية قصيرة أن تفرض نفسها كأسلوب أدبي وطريقة تفكير وتأمل ورؤية مستقبلية على المشهد الشعري والأدبي المحلي، وبدأت تنسج وشائج مع الفنون الأخرى كالفن التشكيلي والسينما والمسرح والتراث والثقافة الشفاهية أيضاً. ولم يكن همها أن تصطدم بالمؤسسات الثقافية لأن الأخيرة رحبّت بها، ونشرتها ودعمتها بدون خلفية أيديولوجية معينة. وفي نهاية المطاف، أثبتت قصيدة النثر الإماراتية فاعليتها وثراءها وشعريتها وآفاقها المتحررة من كل القيود، ودخلت إلى سيرورة الأدب منذ وذلك لثراء تأسيس الدولة الإماراتية الحديثة حتى الوقت الحاضر، ولا تزال تستهوي ذائقة القراء بمحتواها الإنساني والمعرفي والتحرري.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©