الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مارسيلو ماستروياني: أنا حرباء التمثيل

مارسيلو ماستروياني: أنا حرباء التمثيل
29 نوفمبر 2018 01:57

ترجمة: أمين صالح

لا أعرف حقيقةً ما الذي يجعلني أستمر في التمثيل. أحياناً أشعر بالدهشة لأنني ما زلت هنا، في هذا العمر، أشارك في الأفلام كما لو كنت في بداية عملي الفني. أنا أمثّل منذ أربعة عقود. لم أعش حياةً مدروسة ومحسوبة بدقة، وربما لم أتصرّف كمحترف. عادةً أرمي نفسي نحو فيلم جديد كما لو أخوض مغامرة جديدة. التمثيل مجرد لعبة. الشيء المهم هو أن تعرف أي فصل من حياتك أنت تعيشه. ينبغي أن تكون واعياً للزمن الذي تعيشه، واعياً لصورتك. لكن هذا لا يعني أن تفكر في النتائج مسبقاً، وأن تجري حساباً لكل شيء، وأن توجّه حياتك ومهنتك مثل محاسب.

التحوّل من الداخل
فيلم فلليني «الحياة اللذيذة» غيّر حياتي المهنية في مجال التمثيل. قبل ذلك لعبت أدواراً غير ضارة أو مؤذية في أعمال كوميدية لطيفة ومرضية. بعد «الحياة اللذيذة» بدأت أؤدي أدواراً مغايرة تماماً. شخصيات ذات تنوّع وتباين، أقل نمطية وأقل تماثلاً مع بعضها.
لكنني لم أرسم خريطة لرحلتي، ولم أضع خطة دقيقة لمسيرتي الفنية. نظراً لامتلاكي خلفية مسرحية «عشر سنوات مع فيسكونتي وفرقته المسرحية»، قبل التوجّه إلى السينما، فقد شعرت بالحاجة إلى التنوّع والاختلاف، أن أؤدي نماذج جديدة من الشخصيات.
أردت أن أكون مثل الحرباء، أغيّر لوني باستمرار، أدخل جلوداً جديدة وألبس وجوهاً جديدة. في السينما، هذا ليس سهلاً، لأن خاصياتك وسماتك الجسمانية مرئية بوضوح تام بواسطة الكاميرا، والجمهور يبدأ في التعرّف عليك حتى لو توغلت تحت بشرة شخصية جديدة.
تستطيع فقط أن تغيّر لون شعرك في الغالب، أو تضع شارباً أو لحية عدة مرات. الشخصية ليست شيئاً يمكن تحقيقه عبر التحوّل الجسماني فحسب. يتعيّن على التحوّل أو التغيّر أن يحدث في داخلك. لم يكن بإمكاني أبداً أن أؤدي أدواراً كتلك التي كان يؤديها جون واين أو جاري كوبر أو كلارك جيبل.. سوف أبدو بالغ الحماقة والسخف وأنا على صهوة حصان في أحد أفلام الويسترن.

غياب الذات وحضور الآخر
اكتشفت أن الجمهور يحبني ليس بسبب الشخصيات التي أمثّلها، وإنما لأن الشخصيات تتصل بذاتي. تملك جزءاً معيّناً مني. مع ذلك، فقد كنت أرغب في أن يحبني الجمهور.. هذه الرغبة كامنة في شرايين الممثل ولا يمكن إنكارها أو إغفالها، وطبعاً هي تتصل بالضرورة الاقتصادية.
ربما ذلك هو التخطيط الوحيد الذي رسمته لنفسي: أن لا أقبل أدواراً هي خارج نطاق قدرتي.. جسمانياً وسيكولوجياً.
لعب شخصيات مختلفة ومتغيّرة، ينسجم مع طبيعتي الخاصة، فأنا أحب أن أتغيّر، أن أكون مختلفاً في كل مرّة. التغيّر ساعدني على التغلّب على مشكلة ذاتية أعاني منها، وهي افتقاري إلى الشخصية القوية والمتماسكة في الحياة.
إنني أقبل هذه الأدوار لأنها تشكّل تحدياً لي.. حتى عندما لا يكون العمل كله مضموناً، أو تكون هناك تحفظات على قدرات المخرج.
أعتقد أنني شاركت في تمثيل 140 فيلماً.. لا أتذكّر، أمي اعتادت أن تحصي عدد الأفلام التي أظهر فيها، بعد وفاتها لم أهتم بإحصاء العدد وإنما صرت أعتمد على التخمين، وهناك الكثير من الأدوار الثانوية التي لم يستغرق تصويرها سوى أيام قليلة.

كراهية البطل المنتصر
من أجل إشباع فضول الجميع، أكشف هنا سرّاً: أنا من مواليد عام 1924، في فونتانا ليري، الواقعة بين روما ونابولي. والآن، وقد أوشكت على بلوغ السبعين، أجد نفسي أعمل كما كنت أفعل حين كنت في الثلاثين.. لابد إنني معتوه.
طوال هذه السنوات لم ألعب أبداً دور البطل بالمعنى التقليدي، بل بالأحرى أدّيت أدواراً تكون فيها تعقيدات الحياة ومشقاتها وأخطارها ومآزقها مقبولة ببساطة وحنوّ. لا أحب أن أبدو مدّعياً، لكنني فعلاً أميل إلى الشخصيات التي لها تخوم معيّنة، وتتسم بحالات ضعف، ولا تخرج من الصراعات منتصرة أو رابحة. هذا يتوافق مع شخصيتي في الحياة، فأنا لست من النوع الرابح والمنتصر في الحياة الواقعية.
شخصياً، أشعر بنفور من الأبطال.. إنهم أفراد تعوزهم حس المسؤولية. أنفر حتى من القديسين. كيف يمكن لكائن بشري أن يكون استثنائياً إلى هذا الحد؟ هل هذا يعني أنني، بالمقارنة معهم، شخص تافه، مجرد نفاية؟
الناس، في الحياة الواقعية، أكثر غموضاً وأكثر تعقيداً من القديسين ومن شخصيات جون واين. إنهم لا يستطيعون تعديل أوضاع العالم بالقبضة أو بإطلاق الرصاص.
مشكلتنا إننا نُحدث جلبة لا داعي لها بشأن كل شيء. نهتاج حول مسائل تافهة. يجب أن نكفّ عن ذلك. شخصياً، عندما يفشل فيلم لي، فإنني لا أتذمّر ولا أشكو، ولا أعاني من الأرق.. ذلك لأنني أدرك بأن ما فعلته كان مفيداً من بعض النواحي.

لذة المجازفة
فيما تمضي السنوات، أجد أن خياراتي تصبح دقيقة أكثر. كنت على الدوام أرفض المشاركة في الأفلام الكبيرة، الأعمال الأميركية الضخمة، ذات الميزانيات الخيالية، ولهذا السبب اعتبرني أصدقائي مجنوناً.
كنت أرفض الأفلام الضخمة، وأقبل المشاركة في أفلام صغيرة، حميمة، ذات تكاليف قليلة، والتي لا يمكن أن تنجح على الصعيد الجماهيري. المشاركة في مثل هذه الأفلام تعد مجازفة، لكنني تجاهها أشعر بالاعتزاز والفخر.
الأفلام «الكبيرة» الوحيدة التي وافقت على المشاركة فيها، كانت أفلام فلليني.. لأنها ذات محتوى، ذات ثقل، ذات عمق. لكن، بوجه عام، أفضّل تلك الأفلام الصغيرة التي ينفّذها عدد محدود من الفنيين، من الأصدقاء، من الممثلين.. تلك التي لا تضع اعتباراً للإيرادات، والتي توفّر المتعة والبهجة لصانعيها. المشاركة في هذه الأعمال أشبه بالمغامرة التي ننخرط فيها بلذة.
لا أستطيع أن أرتبط بمشاريع مستقبلية. لا أحب أن أوقّع عقداً للتمثيل في فيلم سوف يُنجز بعد عام تقريباً. من يدري أين سأكون خلال هذا العام. لهذا أقبل الأفلام الجاهزة للتصوير بعد فترة قصيرة، وأرفض تلك التي سوف يتم تصويرها بعد فترة طويلة.. ففي هذه الحالة يصبح العمل واجباً، وظيفة، ويكفّ عن كونه مجرد لعبة. العمل السينمائي بالنسبة لي لعبة، والانتظار لا يدخل ضمن شروط اللعبة، إنه ليس ممتعاً.
إنني أقبل ما تقدّمه لي الحياة بكل بساطة وبامتنان. لا شروط لديّ. أقبلها في الحال. الشيء ذاته يحدث في حياتي الخاصة. هناك أحياناً ترددات واعتبارات، أعرف ذلك. لكن إذا وهبتك الحياة أشياءً معينة، خذها واقبلها. إذا قدّمت لك الحياة امرأةً، فيلماً، مغامرة، لقاءً، طفلاً.. خذها كلها بلا تردّد. دعها تنخرط في الموكب، مع تلك الأشياء التي توفرت لك من قبل. لهذا السبب أجد نفسي في انسجام تام مع فلليني.. هو أيضاً لا يتردّد في قبول الأشياء التي تمنحها له الحياة. كل شيء بالنسبة لنا عبارة عن مغامرة، رحلة.. حتى الصداقة.

بعيداً عن المرآة
أنا لا أستطيع أن أبقى وحيداً. حين أكون وحيداً، أدخل مجال العدم. لا أكون شيئاً على الإطلاق.
هناك العديد من الفلسفات والعقائد والنظريات، الاجتماعية والسيكولوجية، التي تؤكد على ضرورة أن يجد الفرد نفسه قبل أن يكون ذا نفع وفائدة للآخرين. أنا أرى العكس تماماً: عليّ أن أكون ذا نفع للآخرين قبل أن أجد نفسي، أو أستطيع أن أكون نفسي.
ربما هذا الموقف يتصل ببدايات تمثيلي في المسرح. كنت دائماً أمثّل. لم تمرّ عليّ لحظة لم أمثّل فيها.. حتى في مرحلة المراهقة، في الكنيسة، في المدرسة. بالطبع كنت هاوياً. في تلك الفترة، رغبت أن أكون مهندساً معمارياً، لكن منتجاً شاهدني أمثّل أيام الدراسة فقدّمني إلى لوكينو فيسكونتي الذي كانت فرقته المسرحية تحتاج إلى ممثّل في سنّي.
لا أظن أنني كبرت ونشأت على نحو ملائم. لهذا كنت أحاول أن أكون محور الاهتمام مثل الطفل. حين أشارك في فيلم، فإنني لا أهرع دائماً لمشاهدة نسخ التصوير اليومية، ذلك لأنني لا أريد أن أجازف بكراهية ما فعلت. من الأفضل أن تدفن رأسك في الرمال مثل النعامة.. وهذا ما أفعله في حياتي اليومية. أنا لا أميل إلى النظر إلى نفسي في المرآة. ربما يكون هذا نوعاً من الجبن، نوعاً من الخداع. أنا لا أرغب في معرفة من أنا ومن أكون.. في كل مرّة أقول لنفسي، غداً سوف أذهب وأنظر إلى نفسي.
عندما يرفض شخص ما أن يكبر، فإن هناك مركّباً قوياً في الشخصية يدفعه إلى الرغبة في التمثيل. هذا بالطبع لا يعني أن الرغبة في التمثيل تقتضي بالضرورة الرغبة في عدم النموّ والنضوج. التمثيل يمنحك الفرصة لأن تلعب بدلاً من أن تعمل. الشخص الذي لا يثق في نفسه، ولا يثق في كونه مثيراً للاهتمام بالنسبة للآخرين، يجد في التمثيل وسيلة مدهشة لجعل نفسه مثيراً للاهتمام.

ذوات أخرى.. هويات أخرى
في التمثيل أنت تنتحل هوية وذاتية شخص آخر، شخص من خلق الحلم، قادر أن يثير الآخرين ويبهجهم، وليس مضجراً مثلك. ومثل جميع الأطفال ترغب في أن تكون في قلب الأشياء، وأن تكون محور الاهتمام.. هذه الخاصية توجد في أعماق كل ممثل. في التمثيل أنت تخفي ذاتك الحقيقية خلف كل تلك الوجوه الأخرى، وتدع الشخصية تحتلّك. إنك تشعر بالأمان والثقة حين تصبح شخصاً آخر لمدة ثلاثة أشهر (فترة تصوير الفيلم) حيث الآخر يمتلك حيوية أكثر، وضوحاً أكثر، ثراءً أكثر. إن ذاتك الكئيبة تتوارى تحت الريش الفاخر للشخصية التي تؤديها.
ثمة خيط رفيع بين الكائن الحقيقي والشخصية التي يمثّلها. غالباً ما أجد نفسي مغموراً بالشخصية النابضة بالحياة التي أؤديها. عندئذ أنتحل، تحت مستوى الوعي، بعض سمات الشخصية، سواء أكانت طيبة أم شريرة. لقد عانيت من عملية الاختفاء خلف واجهة الشخصية في حياتي الواقعية. كمثال، عندما تهجرني امرأة فإنني أؤدي دور الضحية ثم أكتشف في ما بعد أنني أؤدي دوراً.
من الصعب أن أحدّد الأشياء التي غفلت عنها أو قصّرت في أدائها.. لكن كان يمكن أن أكون أكثر وفاءً، أن أكبر على نحو طبيعي، أن أكون أكثر وقاراً، وأكثر شجاعةً. كنت دائماً أتحاشى اتخاذ مواقف تجاه القضايا المهمة. أبداً لم أسمح لنفسي بأن أكون ملتزماً. كنت دائماً أقف عند النافذة وأنظر إلى العالم وهو يعبر. يتعيّن على المرء أحياناً أن ينزل وينخرط في ما يحدث في الشارع، لكنني لم أفعل ذلك أبداً. لم يكن ذلك موقفاً نبيلاً، مع أن العالم استطاع أن ينحدر لوحده ومن دون حضوري.
العالم الجديد ليس مبهجاً. الانحدار، في كل الدوائر، شيء لا يمكن تفسيره بالنواح والرثاء الذي يقدّمه كل جيل يعتبر الماضي أجمل وأفضل.. إنه أمر يتجاوز الرثاء والندم.
في يومنا هذا نصادف الكثير من السطحية، الكثير من المادية. ويبدو لي أن الأمور تزداد سوءاً في إيقاع سريع. وحده العمل في السينما، وفي المسرح، ينقذني بشكل أو بآخر: ها هنا نعيش في عوالم خرافية، خيالية. نعيش في بقعة آمنة، في قلعة حصينة، حيث لا يمكن للحياة الحقيقية أن تخترقها. في الخارج يوجد الجحيم، أما هنا – بحس نوستالجي ورومانسي – فنستمر في سرد القصص الجميلة.
...........................................
* بتصرف عن حوار أجري معه ونشر في مجلة Film Quarterly عدد شتاء 1992/‏‏93

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©