لم أعد أذكر أين قرأت هذه المعلومة التي تفيد بأن أولئك الذين يجنحون إلى إطلاق الأحكام على الآخرين، خصوصاً من حيث تصنيفهم أخلاقياً، إنما يعانون كبتاً كبيراً، ولديهم رغبات خفية «ملحة» في نهج ذات السلوك الذي يرفضونه علناً! الحقيقة أنني ما زلت أجهل مدى صدقية هذه المعلومة علمياً، وإنْ كنت أميل نوعاً ما إلى الربط بين المتغيِّريْن فيها. فقد حدث أن شهدت على بعض من ينصِّبون أنفسهم حماة الأخلاق والقيم، ولديهم نزعة صدامية في إعلان ذلك، يُعلم عنهم فيما بعد بعض الحقائق التي تتعارض تماماً مع ما كانوا يُطلقونه. ونعلم تماماً تداعيات ذلك الفعل على الآخرين، وعلى المجتمع بشكل عام.
الحقيقة أن فعل إطلاق الأحكام على الناس له تداعيات على النفس، تفوق في حدَّتها الأثر الذي يحدثه على الآخرين والمجتمع، وليس أبلغ حدَّة من كونه يغلق فرصاً على النفس لا حدود لها في اكتشاف الحياة وعيش تجارب غنية. إننا أثناء قيامنا بهذا الدور - الذي لم يوكِّلنا أحد به على الإطلاق - إنما نرفض جملة من المعطيات التي خلقنا الله بها، كالحب والرغبة والفضول والمغامرة والاختلاف، وغيرها من الطباع التي يكتمل بها الوجود الإنساني الحقيقي. فأنْ نحكم على شخص بالفاشل لكونه خسر في مشروع ما، إنما نضيق على أنفسنا فرص الإقدام والمغامرة، إننا نحجب عن أنفسنا حق البدء من جديد. وأنْ نحكم على
صبي أو صبية بالتسيب، فإننا نغلق على أنفسنا الحق في التجربة والشعور بالاستمتاع، والحق في الحياة بشكل طبيعي وصدق.. وهكذا.
يبدو الأمر في غاية الصعوبة على أشخاص ينتمون إلى ثقافة اعتادت على تصنيف الناس والحكم عليهم، رغم أن جذور ثقافتنا لا تدعو لذلك، وكل ما يحدث أن البعض قرر القيام بدور الله على الأرض، وهكذا تبنى الجميع هذا الدور طواعية. ولن يمكننا التخلص من هذا الأمر بسهولة، ولكن يمكننا عدم نشره، وتأمله بمجرد الشعور فيه، والتفكر في جملة المشاعر التي نرفضها ونخسرها في أنفسنا بمجرد إطلاق أحكامنا على الناس. علينا التفرقة بين عدم الرغبة في سلك أمر ما، ورفض أمر ما، فلنا كل الحق في عدم الرغبة، ولكن ليس لنا أدنى حق في رفض رغبات الآخرين.