كوننا بشراً، تحكمنا تلك العلاقة الوطيدة مع الحب، وبالأخص مع المقربين، وبالذات مع أولئك الأمهات اللاتي تأتي أصواتهن عبر الأثير، مثل صوت المطر وهو يبلل وجدان الأرض فيجعلها ندية، وسخية، وبهية، ترسل أشواقها للطير كي يحط على أديمها، ثم يتم التواصل مع الوجود، كما هو الالتقاء ما بين العشاق.
عندما تسمع صوت الأم يناديك، وأنت في شرنقة الراهن الرهيب، ينتابك شعور غريب لا تستطيع تفسيره، ولكنك تحسه، أنه يتسرب فيك، كما هي الموجة عندما تتعطش للانسجام مع السواحل، تشعر بكتلة من الأشواق تزحف ناحية القلب، ويتحول قلبك إلى بؤرة من الوميض القادم من منطقة الطفولة، تتذكر تلك المرأة النبيلة التي كانت تملؤك بالحنان، كما تفعل الشجرة العملاقة حين تضم بين ثناياها أعشاش الطير، وتهفهف بأغصانها كي لا يتناثر الغبار حول جفنيك، تتذكر تلك الغافية بين جفنيك، وهي النعيم الأزلي، يمنحك الأحلام الزاهية، ويغرقك بحنان الأمومة، وأنت ترشف من المعين ولا تكف، ولا تخف.
اليوم، أنت في المنطقة الرمادية من وجدان الوجود المأزوم بمخالب الخطر، تحاول أن تمني النفس بالأمل، وتفكر أنك لمجرد أن ترفع الغمة فسوف تطير بأجنحة الشغف، إلى حيث تكمن تلك المحبوبة، وسوف تحط أجنحتك عند قدميها، وتقبل يديها، وتبسم، ودمعة التشظي تغسل وجنتيك، وتتأمل ذلك الوجه الذي غزته مرارة العجز، واكتسحت المحيا أخاديد الزمن.
تفكر فيها وأنت المشتاق، تفكر فيها وفي القلب تطوف فراشة حائرة، هي تلك المرأة نفسها عندما كانت في ثوب الصيف الأخضر الشفيف، تطوقك بذراعي المودة، وتهدئ من روعك، وتقول: لا تخف يا فلذة كبدي، يا مناي، ولمضة الروح، فالليل سيمضي، ويأتي الصباح، لتقطف أنت رغيف المضغة الأولى، ثم ستمضي إلى مسعاك الصباحي، وتلعب مع الصبية، الغافين عند رمل الرمضاء كطيور النورس.
اليوم كيف تستطيع أنت البعيد.. البعيد.. أن تعيد لها ذلك الهارب من بين حناياها، وهو أمل الرجوع؟ كيف يمكن لهذا الباطش المخيف أن يرفع ذراعه الرهيب عن أرواح البشر، ويذهب الفزع، لتعود الركاب إلى مراعيها، وتقطف عشب الفرح، ثم تمضي في هواها من دون أن تسمع عدد المتوفين، والمصابين، وتنتهي اللعبة السخيفة، ويصبح كل ما حدث مجرد ذكرى، تتردد على ألسنة الصغار والكبار، وتقر عين تلك الصابرة.