من حين لآخر، يتمحور بحثي حول القيم الإنسانية، والنظريات المستقبلية للوجود، وتحول الأمم شعوبياً، ومدى قواها التاريخية والاقتصادية، وتحول المجتمعات حول العالم، وبروز بعض النظريات الحديثة، حول التماهي الحضاري والثقافي ما بينها، وتأثيرها على هذه القيم الإنسانية المتوارثة، وتأثير المدارات الكونية على الإنسان نفسه، فلا استقرار دائم ولا سكون دائم، وهذا إجراء طبيعي، أن يشهد العالم مجتمعات متغيرة، رغم نخبويتها، أو تنشد التغيير الحتمي والغريزي، إلا أن معتقداتها الدينية لا تمس، وتبقى ضمن موروثها الحياتي المتجذر في حراك الشعوب وتطور قيمها الحضارية.
في حراك الرفض الذي تشهده أميركا، تحولت بعض الرموز إلى ركام، وسلبت رموز التحضر من أيقونات عالية الثمن، وهدم الزيف الحضاري، ورموز التخلف التي وجدت وشيدت على أساس هيمنة عرقية أو فكرية، فالإنسانية السمحة لا تقبل الذل والعبودية، وإن كانت تدعي حضارية الشكل، وأوهمت العالم بذلك لسنوات طوال. البشرية لا تقبل الإهانات والعنصرية، وفوضى النظام حين يتقمص الجهل، وبمجرد توهج الإنسانية في العالم، تم الحكم على هذه الرموز بالسقوط، وتم رميها في البحر، حطامها تناثر، ولا قيمة لها. وقبل عام، تلطخت يد العنصرية بدماء أناس بسطاء ذهبوا إلى المسجد للصلاة، في إحدى مدن نيوزلندا، وسالت دماء نقية طاهرة، وكانت وصمة عار على جبين الحضارة.
فما حدث في العالم المتحضر، هو رفض ضمني وصريح للغطرسة، أياً كان لونها وشكلها، أو ثوبها وملبسها الذي تتخفى به، كان بمثابة الصدمة للكيانات المتعالية باسم الحضارة، وباسمها ثمة أنفاس تخنق وأناس بالفقر مسحوقون، بل تجعل البسطاء يفترشون الأرض أمام محال لها أيقونات بخسة الثمن.
ثمة تناغم في الرؤى الحديثة، ثمة قراءات وتقارب فكري وإنساني وثقافي، فكل البشرية في خطوط الذاكرة والتاريخ تتقاطع، لترسم معالم الحياة الحديثة، لتسمعك سيمفونية الوجود، لتعيدك إلى لغة خالدة المعالم، بحروف تشبه العالم الواحد، كأنك أمام مرآة لا ينخدش لمعانها بفعل مشين، إلا وتصدت لها هذه القيم الإنسانية النبيلة والمعاصرة، رغم ما قاله صامويل هنتنجتون: «كلما تطورت المجتمعات، أصبحت أكثر تعقيداً». لا، إن هذه المجتمعات أصبحت أكثر نضجاً من قبل، ولم تكن بهذه الصورة المطلقة التي ذهب لها هنتنجتون صاحب نظرية صراع الحضارات، فالقيم الإنسانية دائماً ما تنهض بالشعوب نحو الأجمل والأفضل، أما المؤسسات الإنسانية القائمة، فهي في أطر وقولبة تجهل البشرية قوامها وسلوكها، بل لا ترى لها دوراً في تشكل الحياة وقيمها.