كثيرون كانوا يرونه، ويعرفون صورته، ورسمه لديهم غدا مألوفاً ضمن تلك الجوقة الموسيقية التي لا تخلو شاشتنا الصغيرة منها يوماً، غير أن اسمه كان غائباً عنهم، هكذا هو شأن العازفين في الفرق الموسيقية، و«عدنان الهاشمي» هو واحد منهم، بدأ في السبعينيات عازفاً وضابط إيقاع، وساهم في تأسيس فرقة الإذاعة والتلفزيون، وجلس خلف مطربين محليين وخليجيين وعرب من مختلف الأقطار، جاؤوا هنا، واشتهروا من هنا، وسجلوا أغانيهم للإذاعة والتلفزيون، وفنانون كبار حضروا للمشاركة في الاحتفالات الوطنية والمناسبات الاجتماعية، كان إنساناً بسيطاً طيباً وخلوقاً إلى درجة حُمرة الخجل، خفيفاً كظل طائر، كثيراً ما كان يعترض طريقي بالصدفة إما خارجاً من التلفزيون أو داخلاً الإذاعة، وقدماه تتدافعان جمعة كعادته في المشي، كان مبنى الإذاعة والتلفزيون القديم أشبه ببيته، وكبر معه، حينما كان الخير والود والتعارف في ذاك المبنى القديم، حتى جاء حين من الوقت، وتغيرت الأمور، فالناس القدامى فقدوا الدفء المألوف، وضاعوا في المكان الجديد، والمبنى الجديد ما عاد يعرف الناس القدامى، رغم أنهم كانوا من المؤسسين كل في مجال عمله، وهم الرواد الأوائل، حدثت قطيعة في الزمن، فلم نعد نعرف إن كان ذاك الإنسان الذي كان بيننا حياً، وأخفته الحياة، أم ودعها ودفن في ثراها؟ فلا يبقى إلا الترحم، وتذكر تلك الأيام، والباقون عادة ما يحبسون دمعاً بارداً في العيون، صامتين، مستسلمين، حيث لا اشتهاء يمكن أن يجلبه الاستسلام، ولا إغواء في الصمت.. وبالصمت عينه ودعنا قبل ثلاثة أيام غير مقمرة الفنان «عدنان الهاشمي»، دون أن يتذكره أحد، ولو بعزف اللحن الجنائزي تأبيناً للحظات الأخيرة في الطريق الأزرق الليلي السرمدي!
غادرنا ذاك الإنسان الخلوق حد حُمرة الخجل، مثلما غادرنا غيره، مثلما سيغادرنا آخرون، ومؤسساتنا تُطبّع القديم، ولا تزهو إلا بالجديد، ولا أحد يسند فناناً منسياً أو شاعراً غامر باتجاه جنون الشعر والإخلاص له، وضاعت منه الأشياء غير لقمة لا تغني ولا تُسمن يتقاسمها وقته، هناك أناس جميلون نُحتوا من التعب، وأضنتهم الدنيا في سبيل أن يقدموا عملاً إبداعياً أو يساهموا في عمل فني وثقافي خلّاق، أجبرتهم الحياة، وقلة الوعي بالمبدع والمنتج المحلي على مطاردة المسافات التي كانت لزاماً أن تقطع من أجل السمو بالحالات، والفرح بالإبداع، لا الهرولة خلف مؤسسات تختلط عليها الأمور، وتتشابه عندها الأشياء.. لا تتذكرون إلا إن ذُكّرت، ولا تستودع الناس المبدعين المخلصين خيراً وحافزاً وأملاً، إلا إذا ودعونا الوداع الأخير، ضامّين أطرافهم إلى أجنابهم، حينها.. أي قرطاس بشهادة ذبلى قد تفيد أو أي قلم قد يسطر كلماته في وداع المنسيين، والذين ضاعوا خلف حلمهم الذي لم يقدر أن يكبر.. وكبروا هم عليه، ولو لم يشيعهم غير ذاك اللحن الجنائزي نحو زرقة المكان!