«بالأمس كانوا هنا، واليوم قد رحلوا»، هكذا تبدو لك بعض القرى التاريخية، التي خلعت معطف الزمن، وتوارت خلف ملاءة رمادية، واندست تحت شرشف سميك في الذاكرة، ولم يبد منها شيء سوى صورة باهتة، وجدران شائهة، وأزقة تخرج من بين أضلاعها قطط تموء، متسائلةً: أين الذين كانوا يدثرونها بأعطاف الحنان، ويملأون أفواهها من زعانف أسماك البحر؟!
هذه القرى أصبحت اليوم أثراً من بعد عين، يؤمها الفراغ، وتعشش الوحشة بين عظامها، وينام في أقفاصها الصدرية سؤال العزلة، وبعض خطوات لأقدام مرّت من هنا أو هناك. الذين هاجروا، ضاقت بهم الصدور، واتسعت الأفنية، وعلت الجدران، وانخفضت موجة الأشواق، ولم يعد لهذه القرى سوى الصبر والسلوان، وبعض ذاكرة مثقوبة، تخر منها قطرات الندم، على ما ذهب سدى، وما فاض في وجدان الأزقة من أحلام تلك الشجرة، التي علقت أغصانها كمشاجب لسراويل من غصّت بهم الأمكنة، وصاروا يملأون الفراغ برائحة الزيت المحروق بنيران الغربة.
الآن تلم أنت شتاتك، وتذهب إلى الزقاق الذي مررت به، وعبرت منشأ أحلامك، ترى ما يراه النائم من أضغاث، فتفزع وتهرع إلى الذاكرة، لعلها تغريك بما يستحق الدهشة، ولكن لا تجد في الذاكرة سوى طبق فارغ، وقد احتشد ذباب الظمأ يركل يديك، ويروغك بعيداً، كي لا تقترب من مائدة الفراغ، هنا تشعر أنك جئت في الزمان غير المناسب، وفي المكان الذي غيّر ملابسه، وارتدى ثوب الاغتراب، ملتئماً على واقع غير الذي كان يلهمك بقصيدة الفرح، ويملأك بحكاية الطفولة، يوم كانت الحماية، أنصع من بريق عيني امرأة عاشقة، وأجمل من وجنة لوّنتها اللهفة، بحمرة الخجل.
الآن تأتي إلى هنا، وقد غادرت إبل المكان مكانها، ذاهبة وراء عشب المراحل المخادعة، الآن تأتي إلى هنا، وقد أرخت الجياد صهواتها لخيال ممزوج بوهم الأفكار المبتورة، الآن أنت هنا، تتوكأ على ذاكرة غير مخضوبة بحنّاء الفرح، فكل الأشياء تلاشت، في الزمن الذي يمحي أثر مراجيح العيد، ويغشي العيون التي في طرفها رمق بغبار ما عفرته ركاب المرحلة، الآن أنت تبحث في اللاشيء عن شيء، ظل في المكان مجرد أحفورة نسيتها حضارة بائدة.
الآن أنت تسأل عن حب أنثى للبحر، ورائحة (اليأس) وبخور الطيبات في صباحات مشرقة بلذة الفرح، الآن أنت تسأل عن امرأة كانت هنا في مفصل العمر، أغنية تدوزن برموش العين، وتلحن بخفقات، وما تدفق من خاطر مبلل بالشغف.
الآن أنت جئت في آخر أيام الشتاء، لترطب القلب من سكر رمانة الحلم، الآن، والآن قد أفلت في تلافيفه كل ما جاش في الحلم.