حفيدة.. هي في الضمير مثل نبتة تخرج من تراب الوعي، لتسهب في إيقاظ طفولة غابرة، وتنعم عليك بصوت أشبه بالحنين القادم من محيطات ادلهمت عبابها، وماجت أمواجها، وهاجت رياحها.
هي هكذا تأتيك، لتخترق زمانك، وتستولي على ذاكرة شابها اللغط، ولكنها لم تطفئ أنوار غرفتها. تحاول أن تقرأ في عيني طفلتك، مراسم احتفال زمان مر، وعبر، وأصبحت عرباته بضجيج بلا معيار، ولا مسبار، صرت أنت بلا قميص يخفي أضلاع عزلتك، ويضمك في صدر مرحلة، لم تعد تقوى على حمل مشاعرك، ولم تعد تهوى وجهك في ظلام التوحش.
ولكن هذه الحفيدة، هي الاستثناء في الحب، والفرادة في التعلق، تأخذك إلى حيث تكمن العفوية، وتثريك بالمعاني، وتجعلك في رخاء المشاعر، كطير الصباحات الباكرة، لأغنياتك شجو الرفرفات، والهفهفات، والنفنفات، ولمس الأثير للغصون، ونبس النجمة للعيون، وهمس الغيمة في السكون.
هذه الحفيدة لها من نعيم الخصال، ما يطوقك بلهفة، وشغف، وما يطويك في شرشف المعنى من لحظة مبهرة، حتى يصبح زمانك حصانك الذي يثب بك إلى معشوشبات النجود، ومخضبات السهوب، ومخصبات الترب.
تشعر وأنت في حضورها، وكأنك في الوميض الملائكي، تشعر وكأنك تقتعد كرسياً على خاصرة سحابة ممطرة، تشعر وكأنك متجلياً على صهوة موجة، تشعر وكأنك تتلو قصيدة، كتبت على صفحة سماوية، تشعر وكأنك ترتل رموش الغزلان ساعة الزهو، بعشب المراحل الزاهية، تشعر وكأنك في مراسم تتويجك، على رأس قائمة الحائزين جائزة التفوق، تشعر وكأنك تجدل خصائل أشواقك القديمة، تشعر وكأنك تقرأ في كتاب الفلسفات العتيدة، تشعر وكأنك تولد من جديد عندما تتملى ملامح البراءة في عينيها، فيستيقظ الطفل فيك، وينهض، وتفيق أنت على صوت أشبه بالهديل، يذهب بك إلى مراحل، وسواحل، ومناهل، وفواصل، ومفاصل، وجداول، تبحث عنك فيها، تجلبها إليك بقوة الذاكرة التي توأمت بين مشاعر، وأواصر، ودوائر، فتمنحك القناعة، بأن الأعمار ليست إلا أرقاماً، أما نحن فنظل أطفالاً، طالما احتفظنا بالصفحات البيضاء، ولم نخدش المرآة بغبار أو سعار.
هذه الحفيدة منحتني قدرة المقاومة على الإحساس بالعدمية، ونسجت في داخلي خيوط قماشة جديدة، وسكبت في أعماقي رحيق المراحل المتفائلة.
هذه الحفيدة سكنتني، كما تسكن الفراشات أكمام الزهور، واستولت على مشاعري، كما تستولي الأعشاش على الأغصان. إنها الدماني في مرتع القلب، ومهجع الروح.