الانطباع الأول، الدهشة المرجفة، النظرة المذهلة، وعلى أعقابها تبنى التصورات، وتحشد المشاعر، وتنمو في القلب أعشاب التدفق نحو الآخر. فقد تتعلق بإنسان رغم ما فيه من تناقضات، وقبح، وقد تثب نحوه من دون أن تجمع أو تطرح، وقد تذهب إليه بكل جوارحك، وأنت لا تعلم ماذا تخبئ لك تلك البئر العميقة، أنت لا تعي ماذا في جعبة المعطف الذي أذهلتك ألوانه، وأنت لا تدري ماذا يكنّ لك بريق العينين، ولمعة اللجين.
أنت لم تزل في الدهشة، ولم تزل في النظرة الأولى، والتي ربما أبرزت لك القشرة على أديم الأرض، فانبثقت فيك اللهفة، وجرّت حبالك باتجاه المشهد وركضت، واندلقت، ونزفت، وعزفت لحن خلودك، على وتر، ودهر.
الانطباع الأول يأخذك إلى سراب، وإلى صور مخادعة، وإلى ألوان تتراكم أمام عينيك، كأنها المنمنمات، ولا تعرف أنت شكل الواقع، ولا تفهم كيف يتم التناسق بين الأشكال، وتظل في قاع الحلم مثل ذبابة يحلو لها الدوران حول منظر الوهم، تظل أنت مثل الظامئ يعالج ضنكه بنبذة من خيال، يترعرع بين الجفنين، وتنمو سنابله بقوة التأثير على وعيك، وبقدرة الرغبة التي تجذبك نحو الأمل.
كل ذلك يحدث لك وأنت في معمعة الانطباع الأول، كل ذلك يسطو على مشاعرك، وأنت في التصور الأول للشيء الذي أمامك، ولن يردعك ما قد يخفق بين أذنين من محاذير، لأنك لم تزل تحت السطوة، وفي أغلال السيطرة، وعبودية الانطباع الأول. فقد تحب شخصاً، وتهيم به غراماً، وهياماً، ومهما بدت أمامك من سيئات فأنت لا ترى غير المحسنات البديعية، أنت لا ترى سوى قشرة البرتقالة، أنت لا ترى إلا رفرفة الجناحين، ولا تعلم إنْ كان الطير يرفرف مزهواً بجماله، أم أنه يرفرف متألماً لجرح يمنعه من التحليق.
أنت ما زلت في النظرة الأولى، أنت عند سطح الماء ولا تعلم إنْ كان البحر عميقاً، وقد يغرقك، أم أنه عند مرفق القدمين. وقد تكره شخصاً لمجرد أنك شاهدت الداخل من خلال صفحة الوجه، أو سحنة الوجنتين، وصرت متأزماً، محتقناً، لا تطيق رؤية ما يتمثل أمامك، وقد ترتكب جريرة تؤدي إلى خراب المراحل، وتسوم صاحبك سوء العذاب، وتجتر صوراً غائمة لا تعلم أنت من أين جاءت، وكيف تسرّبت، ولماذا تجسّدت بهذه القتامة؟ فأنت في الانطباع الأول، تبدأ من الصورة الخلفيّة لكل ما تشاهده، أنت في الانطباع الأول، تنظر إلى الوجوه بعين المقاربات مع وجوه تظن أنها قرائن ومتشابهات، وهو الانطباع الذي جاءك من منطقة اللاشعور، هذا المكون الأساسي لانطباعك، وهو اللوحة التشكيلية الأولى التي تركت فيك تشوهات زمن ما، وأصبح اليوم يلاحقك، ويسطو على مشاعرك، ويحوّلك إلى دائرة مغلقة، بلا نوافذ تساعدك على رؤية الأشياء كما هي وليس كما تتخيلها أنت.