حين يرحل الكاتب من عالمه الخاص أو من دنياه، لا شك بأن الحياة تقف أمام هذا المشهد بالذات، المعنون برحيل الكاتب، ليس لأن عالم الكاتب نوعاً ما غرائبي وخفي ومبطَّنٌ بالذات المفكرة، بل لأن عالمه استفزازي للحياة نفسها، بما يطرحه من تساؤلات ذات مدى أبعد من ذاكرة حياته نفسها، فروحه تتسم بالبحث عن نزعة البقاء الأبدي، نزعة المكانة الأسمى، فلا يضيره رحيل الجسد، ولا يثب أمام ذاكرة تسطرها الكلمات الخاوية والدارجة، فالكاتب يعمل من أجل أن يطرح رؤاه، من خلال أرصدة الإصدارات القيمة، والتي يؤمن بها حق الإيمان، ويبث رسالته السامية من خلال كتابته، لكن بهذا الرحيل يستنفذ الحياة أيضاً تاركاً قراءاته المتعمقة، ومكتباته التي رافقته طول حياته، كل هذا الرصيد الثقافي الجميل يتناثر في ثوانٍ معدودة، ويبقى مشهد الرؤى التي رسمها بقلمه، يبقى مشهداً ماثلاً للتأمل الوجودي، وبموته يحضر الكاتب كما لم يحضر قط، يحضر في كل الوسائل الإعلامية والمجتمعية العالمية، فهذه المرة يحضر دفعة واحدة، كما لو كان فائزاً بجائزة عالمية، إلا أنه الرحيل الأبدي.
ما جعلني أتأمل هذا المشهد المدهش رحيل الكاتب «كارلوس زافون» قبل أيام، فما إن أعلن رحيله عن الوجود، حتى سارعت سائر المكتبات العالمية في طرح كتبه أمام واجهاتها لبيعها، ولتكسب من وراء موته، فكم هي الحياة مدهشة، إلى درجة البكاء حين يُتاجر بموت الكاتب أو المؤلف.
لكن في عالمنا العربي ما هو أسوأ من ذلك، يقابل رحيل الكاتب بشيء من الفتور أو تحتدم الآراء حوله، والأدهى من ذلك أن يولد الكاتب أو يموت ويبقى في النسيان، لتختلف فكرة الرحيل تماماً، كون الكاتب في محيطنا العربي يولد ميتاً، تصادر قيمة رؤاه منذ البدء، وما بين الرحيل العالمي والآخر العربي يبرز السؤال: كيف يموت الكاتب متألقاً؟ كيف تسطر أفكاره العظيمة إذا كان يتعذر على بعضهم فهمها وهو حي، حتى لا ينشر خبراً عن إصدار له؟ فالكاتب هنا يولد متجمداً في عذرية الإبداع، فكيف يتاجر العالم بإبداعاته بعد رحيله؟ وبينما تفسح المساحات الصحفية، لأخبار واهمة تصدر عن ذاكرة مفقودة، متخيلة أنها أخبار ثقافية، بينما هي في الأساس مجرد حبر على ورق، تكتب من أجل الاستهلاك الثقافي، لا أكثر ولا أقل، فالكاتب الحقيقي لا يموت هنا إلا وهو ميت من الأساس، فكيف يبقى على قيد الحياة بعد مماته ورحيله؟ كيف يكتب في حياته ويبقى دون صدى يذكر؟ أو ترى تتجرد الأحلام فقط من حياة الكاتب هنا، ليبقى في رحيله مستمراً.