بالأمس كنت أعبر الطريق الجبلي من قرية المنيعي إلى حتا، طريق متعرج بين الجبال، لم أتجه إلى الناحية التي تشير إلى منطقة شوكة حتا، وإنما أخذني الطريق في مساره المتعرج، وعلى الرغم من أنني ذهبت إلى هناك أكثر من مرة، إلا أنني في كل مرة أضيع الطريق والمسار. لا أحب القيادة في المناطق الجبلية، تشعر أنك محاصر بالصخور والارتفاعات التي تخالها سوف تهاجمك، وفي نفس الوقت تشعر بأنك تحلق في فضاء رائع وجميل من جمال الطبيعة وزينة النباتات والشجيرات التي تعلو تلك المرتفعات أو تنام تحتها. مناظر بديعة وجميلة، وحدها الطرق المتعرجة مخيفة وظهور السيارات المسرعة والمفاجئة عند كل منحنى يدعوك لأن تتمسك بعجلة القيادة وكأنها ثوب أمك القديم، الذي كنت تحتمي به طفلاً، عندما يظهر ما يخيفك.
تختفي الإذاعة من الراديو، وتظل فقط الوشوشة والضجيج، هنا لابد أن تدير مسجل السيارة، وأجمل ما يناسب المسارات والطرق الطويلة الأغاني الشعبية، هي وحدها التي تثير الشجون، وتأتيك موجة من التداعيات الجميلة والمفرحة والمحلقة بك إلى الفضاء البعيد، إلى الماضي الجميل والبيئة الجميلة، بل تحمل أروع القصائد الشعبية، الفن والموسيقى والصوت الشجي العذب، هو الذي قدم القصائد للناس وعدل وزين من القصيدة نفسها وجعلك تحب الشعر والفن، أما الشاعر نفسه، فقد لا يستطيع بعضهم أن يقدم إلقاءً جميلًا، بل بعضهم لا تحب أن تسمع صوته، وهو يقول قصيدته، حيث لا يجيد فن الإلقاء ولا توصيل القصيدة إليك جميلة.
على مسار ذلك الطريق كان أروع صوت شعبي أحبه ويطربني كثيراً. فنان له الفضل في رفع الفن الشعبي إلى ذائقة محبي القصيدة الشعبية ومحبي الفن الشعبي الجميل، الفنان ميحد حمد، صوت رائع، وغناء بديع، واختيارات في غاية الجمال للقصائد التي تشعرك بأنه متذوق ومحب للشعر الشعبي، ينتقي تلك القصيدة التي تثير الشجون، وتعيد لك الحياة والذكرى الغائبة الجميلة. يأتي ذلك في الاختيارات التي يتأكد لديك أنها اختياراته وذوقه وإحساسه الجميل وإبداع الشاعر الشعبي. تحسس أوتار حنجرته الجميلة وصعودها مع القصائد التي تخاطب الحب الدفين في القصيدة، وتفاعل الفنان وفعلها في دفقات صوته، وهو يعطي للأغنية كل إحساسه.
في الإمارات ثلاثة فنانين حملوا جمالية الغناء الشعبي، منذ السبعينيات قدموا أروع ما يمكن للغناء الشعبي، وعرفونا بأجمل القصائد الشعبية، ولولا هؤلاء لم نتذوق جمال القصيدة الشعبية القديمة، وأهم هؤلاء، جابر جاسم، وعلي بن روغة والفنان الجميل ميحد حمد، والذي ما زال أمامه الدرب طويلاً ليزيد من رصيد العطاء.
هذا الفنان الجميل خفف عني وحشة الطرق الجبلية وحلق بي إلى الجمال وروعة الحياة وحب الفن والإبداع الموسيقي.