أبجّلُ سيرة الليل، وأصبحُ نوعاً ما، قمر اكتمالهِ. وأمدحُ رسوّ الفجر عند قدمي المدينة، كأنني نوعاً ما، أصف نزول ضبابٍ في الغابة وأشهدُ عماء ثعبانها. ليس هذا سوى تمهيدٍ لقصيدةٍ أبطالها الظلال. هم لا يرونني، وأنا لا أرى البحر، لكن سفناً كثيرة تصابُ بالإغماء حين تهبُّ فكرة العاصفة، ثم يخرجُ قبطانٌ منزوع النياشين ويصفعُ الموجةَ على خدّها الأيمن فتديرُ له خدّها الأيسر. ثم نراهُ يحملُ مجدافاً ويكتب على الرمل عبارة «القسوةُ أحياناً هي الرحمة»، لكن النوارس الفزعة، تنقرُ عينه الوحيدة، ويعضّه سلطعونٌ في الحذاء، وأراه يموتُ غرقاً بعد ذبول همّتهِ، وفتور قلبه ويديه.
وأنا، بعد أن أدوّن ما رأيته للتو، أصعدُ قارب الحظ وهو مثقوبٌ، ومنحورٌ في مقدمته، ومقصوفٌ في الذيل. بحري هو النار، ومجدافاي عودا ثقاب، وكلمتي عطشانة تبحث عن لسانٍ ينطق بها. كلما طاف زمني على مكانٍ، تآكل الفراغُ واختفى نابه الوهميّ. وكلما حفرتُ في روح المعاني بحثاً عن أصلها، وجدت قبراً لكلمة حنّطها المرتجفون من فكرة الحرية، وهم في الحقيقة رجالٌ تنوبُ عنهم ظلالهم، ونساءٌ قلوبهن حصالات لعملة الصبر النادرة، وضروعهن درٌّ لأطفال الضياع، الأطفال الحفاة الراكضين في خدعة المغامرة.
سأنادي على القصيدة أن تأتي بكامل ظلالها، وليقفوا طوابير على باب الأسئلة. إن فتحوهُ نالوا خلودهم في الفناء، وإن خلعوه، صاروا سادة النهاية، وفرجةً للمنتظرين وعداً أو أمل. 
سأقص جناحيك أيها الطائر الجريح، ولتعش بيننا كائناً أرضياً يحلم أن يطير. سأطلقك حراً لتركض في القصيدة، لا يراك إلا المنقبون ما بين السطور، ولا يسمعك، إلا الذين تسامروا في انتظار الفجر، فارشين أحلامهم على الرمل لعلها يوماً تشرقُ الشمس، وتغسل قلوبهم من وحشة الدهر، وتقلبات مزاجه، ومصروف لياليه.
لم تولدُ الحقيقة بعدُ، ها هو الشاعرُ يعضُّ  على شفتيه متحسراً بأن الحياة، بعد أن عاشها كلها، ليس لها معنىً يؤطّر، ولا شكلاً يُفسّر، ولا يقيناً يريح عذاب الفيلسوف ويطفئ جمر أسئلته الباكية. خذ النصل إذن واطعن به صفحة اللغز، وكن أنت، جواب الحيرة للعقول الباكية. لأن الناس في الذهاب والإياب، بلا طريقٍ سوى اجترار ما ألفوه. والناسُ، في السراء والضراء، ضحايا لتنافر الضدين، ولا يرى الصورة الكاملة إلا الذي يتجرّد من الحكم على الأشياء، ظاهرها وباطنها، ويؤمن بأن الوجود مجرد قصيدة غير مكتملة.