عندما تقرأ أرقام فواتير الكهرباء والماء، تتخيل نفسك أنك تدير فندقاً، أو محلاً تجارياً عملاقاً، حيث بفعل حرارة الصيف، تمدّدت الفواتير، وتضخّمت، وتورّمت، وتعاظمت، واكفهرت، وشحبت، وصارت لها مخالب تنتزع من قلبك ما تدخره قوتاً للأفواه والأرانب، ولو فكّرت بتأجيل السداد، فسوف يعاقبك ذلك الرجل الذي يتحين الفرصة لقطع شريان الحياة، من الوريد حتى الوريد، ويدعك تلهث، وتؤنب نفسك، لماذا لم تسرع في السداد حتى تتقي شر العرق، واختناق أنفاسك. يا جماعة، سداد فواتير الماء والكهرباء واجب وطني، وأخلاقي، ولا عذر لمن يتوانى عن تأدية هذا الواجب، ولكن نقول: رفقاً بالقوارير التي في جيوب محدودي الدخل، والذين يكدون، ويسهرون، ويتعبون على الاكتفاء الذاتي وسد الرمق، وكف الحاجة.
الأرقام الخيالية التي تزيغ لها الأبصار، وترتعد لها الفرائص، بحاجة إلى فرامل توقف سرعتها الهائلة، وإلى ضمائر تمنع تدفقها المخيف.
فليس كل الناس لديهم القدرة على مواجهة هذا الغرف، وهذا النزف، وهذا العزف، خارج سرب القدرات المالية لدى الكثير من الناس.
فالحياة تغيّرت، والظروف عصيبة، ومصاريف الأسر تضاعفت، في شؤون كثيرة، والطفل الذي كان يكتفي بقدر زهيد من المصروفات، أصبح اليوم يحملق في مستلزمات باهظة الثمن، ترهق والديه، وتحمّلهما مسؤوليات جسيمة، وعندما يصدم أرباب الأسر بهذه الأرقام المكشّرة عن أنياب حادّة تقطع أعناق ما في جيوبهم، يصبح هؤلاء أمام الأمر الواقع، فإن سدّوا ثغرة الفواتير، انفتحت أمامهم ثغرة المطالب الأخرى، وما بين هذه وتلك لابد من خسارة فادحة، ولابد من حسرة تتبعها آهة، ولكن الآهات لا تحل مشكلة إذا لم ينتبه أحبتنا في هيئة الماء والكهرباء إلى من هم من دمهم ولحمهم، ونظروا في الأمر بعين مبصرة، ونفس بصيرة، وقطعوا دابر الأرقام الكبيرة والتي بحجم الهموم التي يكابدها كل من أرهقته هذه الأرقام، وقيّضت منامه، وأتعبته تفكيراً، وتأملاً فيما يحدث خلف جدار منزله، وما يفعله ذلك الموظف الذي قد لا يتعب نفسه، فيلجأ فقط إلى الحسابات التقديرية، وهذه هي لب المشكلة، بأن نقدر من غير تقدير، وأن نضع الأرقام ونختفي.