أسرّ لي الفيلسوف: لا تصدّق ما لا تراه، وجاهرَ: الحقيقةُ تتآكلُ أيضاً، وقد يذبلُ مُحّها ويخاطُ فمها للأبد، ثم دعاني لنراقب معاً حلبة المصارعة الحرة بين الخير والشر، وقال: إنهما متعادلان دائماً، ثم قال: عندما تراقب الآخرين تصبح، من غير أن تدري، حكماً بينهم، وكل حكمٍ ينحاز بدرجة ما حتى لو عدل، وكل آخر ينتقص منه، حتى لو ألبسوه قلنسوة البراءة، وأجلسوه ورسموه متبسماً وسعيداً في لوحة الخلود.
حدث هذا في صبيحة زرقاء، كنتُ قد ذهبتُ إلى البحر بحثاً عن الموجة التي تصمد حتى النهاية، لكني وجدتها زبداً، وشدّني أن اليابسة والماء ليسا ضدين إلا في عين الغريق، قال الفيلسوف: العاصفة لا تموت، إنها تفسدُ فقط، ويأكلها فراغها من جوفها، لكنني، عند ساعة الغروب تحديداً، رأيتُ الظلال تطولُ أكثر من اللازم، وراعني أن طولها هذا نذير تلاشيها بمجرد هبوط الليل، بعباءته الطويلة، وبثقله المعنوي، وخفته على الروح، ومسرّاته الضامرة.
ثم سألته عن الصمت، هل هو فقاعةٌ في الفم، أم حجرٌ لإشباع الأصنام التي تخثّرت من كثرة البحث عن المعنى وهو لا يوجد أصلاً؟ قال: نعم، لا يوجد المعنى إلا متغيراً، متحولاً، متبدلاً، ورفع إصبعاً وأشار إلى القمر، وكسر غصناً من شجرة ميتة وصنع رمحاً، فسمعنا عواء الذئاب يتلاشى في البعيد، وانقشعت ستارة الخوف لمجرد الخوف، ومرحباً بالصبح سمعته يقول، ومرحباً بالجديد قالت الوردةُ بلسان فراشتها، وما هي إلا لحظات حتى اكتسى الوجود بملامح الفجر، كأنه وعد أغنيةٍ آتية.
الآن، أنا والفيلسوف متقابلان على ضفتي النهر، لو أقفز، سأراه بالتأكيد يغرق، ولو ألوّح له، سيظنني شجرة ويدي غصناً، وصوتي نواح أزمنةٍ متأخرة، وإذا مددت أمامه جسدي جسراً ليمشي حراً فوق المياه، سيكتشف أن الموت مجرد عبور وهمي من فكرة إلى فكرة، وأن الحياة مسيرٌ دائم نحو اكتشاف اللانهاية.
آهٍ يا الفيلسوف، ليت أجنحتي من ريشٍ، والريح أمّي، والأفق درس بدايتي، لكنت رسمتكَ في الهواء طائراً يغردُ بكل اللغات ولكن بلسان واحد هو لسان العقل، ولكنت صنعت سلالم كثيرة من الكتب المهجورة وقلت للمنتظرين: هيا اصعدوها لنهدم فكرة الجهل ونزلزل وهن القلوب التي اعتاد أصحابها على التسليم بالجاهز والعادي والرتيب، سنفعل هذا بكلمة واحدة هي (الحب)، بها نؤسس لمذهب الضوء، ونبني معابده في كل ركن وزاوية.