راجت منذ سنوات نظريات التحول الرقمي في الثقافة، وتنبأت أكثر من دراسة باختفاء الكتاب الورقي سريعاً بسبب التحولات الثقافية التي يشهدها العالم، وبالأخص في حقول الطباعة والنشر، لكن هذه النبوءات لا تزال غير قابلة للتحقق، ويبدو أن البشر مجبولون على عادات لا يمكن نسيانها بسهولة، حيث تشير أكثر الاستبيانات إلى أن القراءة الرقمية للكتب متعبة ومجهدة، وأن الناس يفضلون الاختلاء بالكتاب الورقي، وفي فترة العزل الصحي التي اجتاحت العالم بسبب وباء «كوفيدـ 19»، لم يذهب الناس لاقتناء الكتب الرقمية، بل عادوا لاستخراج ما بقي من كتب ما زالت مهملة على الرفوف سنوات طويلة، وحاولوا التهامها من جديد. 
ومن مراقبتي لما قام به معظم الأدباء والقراء، وجدت أن الجميع تقريباً أعادوا قراءة كتب مهمة وروايات إشباعاً لفضول قديم. وكثيرون وضعوا رزمة من كتب كانت مؤجلة وكأنها واجبة، وأنهوا قراءتها. لم أسمع بكاتب أو قارئ نصح باقتناء كتاب رقمي، ووضع صورة غلافه على مواقع التواصل الاجتماعي، لم يكن هناك سوى الكتب الورقية.
لكن هذا لا يعني أن الكتاب الورقي سيظل صامداً للأبد. في الغرب الآن، رواج كبير جداً للكتاب الصوتي الذي أصبح عادة لدى كثيرين، يتبعه بالطبع حلقات ملخصات الكتب التي يطرحها كثيرون كبرامج يومية وأسبوعية على اليوتيوب، وهي في الغالب تقدّم فحوى الكتاب وأبرز ما فيه للراغبين كجرعة خفيفة في دقائق قليلة، وهناك من عوّد نفسه على اقتحام عالم الكتاب الرقمي، ودرّب عينيه على القراءة من الأجهزة المحمولة ومن بينها أمازون كيندل. وبالمناسبة، فإن هذه الشركة تصدر سنوياً تقريراً لحملة الأسهم يتضمن جانباً من مبيعات الكتب الإلكترونية، واتجاهاتها وأكثرها مبيعاً ورواجاً، واعتماداً على هذا التقرير تقوم الكثير من شركات النشر ببناء استراتيجياتها وتحديد خياراتها المستقبلية.
هناك ثغرة معرفية وسلوكية تفصل بين هذين العالمين. عالم الورق وعالم القراءة الرقمية. رأينا معاناة الصغار في التعليم عن بُعد، ولمسنا موت الروح في بعض الأنشطة والفعاليات التي تقام افتراضياً رغم فوائدها العظيمة كونها تتخطى حدود الزمن والمكان، وتصبح متاحة لأي كان في أي مكان وأي وقت. نحن هنا نتحدث عن إنتاج المعرفة وتفاعلها في عالم يتغير بسرعة هائلة، ويبدو أن المرحلة المقبلة تتطلب أن تواكب حركة النشر في العالم هذه السرعة الفائقة ليس في اقتناء الكتاب فقط، وإنما أيضاً في سرعة قراءته واستيعاب مضامينه ومعانيه وفحواه.