حين وصلت قبل سنتين إلى سنغافورة، في طريقي إلى الشرق البعيد، تطلعت لساعتي، وحسبت أن ورائي تقف سبع وثلاثون سنة مما نعد على أول زيارة لسنغافورة، آه.. ما أسرع تلك الساعة التي أحملها في يميني!
جلست أتأمل علّني أتذكر شيئاً، غير أن المدن الحديثة تقتل ذلك التأمل، وتطرح عليك ما جد عليها، وكل ما هو جديدها، فتعود تتعامل معها، وكأنها مدينة أخرى، ما يميز تلك المدن، ذات الأبراج والزجاج والحداثة الطاغية، أنها تعرف ذاك العقد غير المبرم بينها وبين الزائرين غير الماكثين إلا ليالي والمتوجهين  إلى كل الجهات المفتوحة عليها، كانت وجهتي جزيرة «بالي»، ورغم أن لأجواء الجزر سحرها وألقها، إلا أن هناك أمراً واحداً يلازم ضيقي وتبرمي رغم محبتي لها، ألا وهو «اللغط»، واللغط العامية مشتقة من العربية، إلا أنها تعني شيئاً بعينه عندنا، وهي الرطوبة المشبعة حد عدم التنفس مع التصاق الثوب بالجسد، و«واهي» من شدة الحرارة التي لا تطفئها تلك المراوح العملاقة التي تتسلق الأسقف دون فائدة تذكر، غير كش الذباب من بعيد، والتي تجلب الكسل للعظام، فتشعر أنك «متبريد»، وفيك رقاد، وما فيك، ولا تعرف ماذا تعمل بكل ذلك الدبق! حتى لأشد ما تتأسف على حال المرأة المتأنقة في ليل الجزر، خاصة إن ارتدت الحرائر الناعمة، وهناك أمر آخر وهو الشعور بدوران الرأس أو ما يسمى صداع السفر، فحين نولي وجوهنا نحو الغرب، ونصل لتلك البلاد الباردة، إذا بالناس «ياضة»، وسهارى، ويدبكون، والليل بعده في أوله، ولا ساعة «بيولوجية» تتخربط، ولا غيره، لكن ما أن نصل لذلك الشرق الأقصى الذي يلاقي الشمس قبل شروقها حتى يصيبنا تلبك معوي، ومرات نصلي ست مرات في اليوم، و«نازم» نأكل «ريوقنا» أنصاف الليالي!
انضممت لحفل «كوكتيل» التعارف للمشاركين في افتتاح مهرجان السينما في «بالي»، ولفت نظري شاب صيني ضئيل، بدلته التي عليه توحي بأنها كانت لألماني في الأيام الغابرة، وضاقت عليه، لم يكن الصيني المتآكل محط كشافات كاميرات التصوير، واستوطأ الجميع حائطه، خاصة وأنه لا يعرف إلا الصينية بتعمق، والذي يمكن أن يفوز بجائزة نوبل في يوم من الأيام، ونحن والحاضرون «الغز هالمتن»، وما في فائدة، نتسابق على ذلك «البوفيه» البارد، لكنه حين تكلم عن قومه، وأنهم يصومون الدهر، أي بما يزيد على المئتي يوم في السنة، ويلزم أن يتسلقوا خلالها الجبل مرتين، صرخت أميركية من «المتان» الغلاظ: «وآآت...»! وأعلنت برازيلية بخض رأسها «أنها لم تستوعب الموضوع، وقد لا يعنيها تماماً»، أما الإنجليزي المتبرم فقال: «لا أرى ضرورة لكل هذه المشقة، الحياة يمكن أن تمضي بدونها»، لكن الصيني أجبر الحضور هذه المرة على أن ينصتوا له، غير أنه اكتفى بأن قال: «هذا جزء من العبادة عندنا، وشكر النعم»! ليلتها اختزنت حكمة صينية، ونمت باطمئنان.. وغداً نكمل.