الكلام الذي تناسل دهراً في القلوب الصامتة، يا للغرابة، صار أصلاً وجذراً للّغة البكماء. وصار المدرسُ لا يحتاج فمه ليفسر الفرق بين الماء والماء، أيها الفيلسوف، يكفي أن تصفّقَ ليصير الكون عرساً، وتندلقُ النجوم على رأسك، ويكفي أن ترمي الوردة في النهر لتُفزعَ تماسيحه الضجرة من تكرار أيامها، لا شيء سيحدث لو قفزتْ عاشقةٌ من غيمتها، وسقطت في حضن رجل يتأمل وجوده الفارغ، لا شيء سوى أن الملائكة ستشعر باختلال الكون قليلاً، وسيرتفع منسوب النميمة بأن الزمن مقبلٌ على تغيير جلده، وأن الأرض تعيدُ تسريح باروكتها كي يتوازن ميلانها هنا وهناك، سيحدث هذا تلقائياً في زمن الذكاء الاصطناعي، وعندما سينظر الرجلُ إلى ساعة يده، سيتذكر القطارات كأنها أفاع عملاقة تشقّ الوديان والمدن، لكنها تختفي فجأة في القصائد المتروكة بلا نهايات.
يا للغرابة، شحٌّ في اللغات، وصمتٌ في المؤكد، وتذكارات وخواتم للداخلين في سؤال النسيان، ما من يدٍ، إلا وألقمها الحاذقون جمرة السكوت، وما من طريقٍ إلا الدوران للأبد في الفكرة الماكرة، تعال إذن أيها الفيلسوف الأخير، اجلس قبالة الفراغ وقل للكلمة المسرورة: أنتِ فقاعة ما يتلوه ضدكِ، ثم ادخل معي في السلالم نازلاً أو صاعداً لا يهم، لأن الذي محوته بالأمس، صار اليوم صوتك، واسمك الذي تعرفه، كان نقشاً على صخرة الصبر، وصار اليوم لافتة لمكتب بريدٍ منسي في القرى التي هجرتها الخيول، ونبت الفطر على جانبيها وتخومها.
عن أي سبب تبحث؟ وحياتك كلها مجرد خضوعٍ للمسطرة، وقلبك مجرد حصالة خزفية تركلها الأرجل على الرخام، كانت الذكريات كنزك وملاذ أجنحتك، فلماذا فتحت صندوقها في العاصفة؟ لماذا وقفت تكحُّ دماً على لوحة البياض؟ ولماذا خلعت ثيابك لتغطي عري التماثيل في متحف الماضي؟ هل سقط فمك في الماء وجرى كلامك، مثل الآخرين، في تيّاره؟ وإن حدث هذا، كيف ستعضّ يد الحسرة في يوم الوداع، وكيف ستنفخ بالونة الوهم وتروي الأساطير وتمجد الأفكار المجنونة والنافرة؟ يا أخي في رضاعة الفكرة، ويا ظلي في عتمة المعنى، ويا جرح اليد التي كلما امتدت لتُعطي، عادت مقطوعة أصابعها وأقلامها.
الآن، كل سبب ينجبُ نقيضه، اصعد القطار وستهبط في الأمس، اركل الفقاعة وسينصبك المدربون حارس مرمى للندم، وجاهر قل: أنا كائن حيّ، وسترى أن بذلتك البيضاء تصير رمادية، وقبعتك تتبلل خرساء تحت مطرٍ أسود.