كان ذاك الرجل المسن يقف إلى جوار المبنى السكني، والذي يتألف من ستمائة وحدة سكنية، عندما سأله الصحفي عن شعوره وهو يقف بجوار مسكنه، مسح الرجل دمعته بطرف إبهامه، ثم انثال بلهجة تهدّجت جرّاء ملامسة السؤال لذاكرة ظلّت تحفظ الود لمن سوّر المشاعر بدفء أبوي، وإحساس إنساني بمعاناة شعب على مدى عقود من الزمن، ولم يستطع أن يفرج الرجل عن كلماته المحبوسة بين الشفتين إلا بصعوبة حيث الموقف رهيب، والصورة المتنقلة بين العقل والعين، تبدو مثل جناحين يرفرفان، من أجل تحرير القلب من غبن سنوات عسر، وضجر، إلى فضاء يسفر عن باحة أمل جاءت من لدن كريم، رحيم، ومن لفتات الرجل، ونظراته السابحة في اللاشيء، كان يريد أن يعبر عن شكره، وعرفانه للذي فتح له ولأسرته المكونة من سبعة أفراد، نافذة باتجاه الرحابة وبعيداً عن الشعارات الصفراء، والانتصارات الوهمية، هذا الرجل أراد أن يقول لحاكميه، إن كل ما يريده الفلسطيني في غزة هو شرف ضم أسرته في كنف جدران تحميه من التشرد، والتصهد، وتكبد الفقدان، وخسارات زمن أصبح فيه الصوت أعلى من الصيت، وصار فيه دخان الصواريخ الوهمية، والتي لا تسمن ولا تغني من جوع هو الذي تفتخر به منظمات اقتنعت أنها بالخيال الجم تستطيع أن تحمي الفلسطيني من العراء، والجوع والضيم والغبن، وفقدان الأهل والأحبة.
نظرات ذلك الأشيب البديهي، والعفوي، كانت تشير إلى معالم جريمة ترتكب في حق الإنسان، ولكن لأن المراهنات أصبحت بيد من يحمل بندقية الصيد، ويقف على المرصاد لإسكات الأنات بهاون القمع، والردع، مما يجعل المسالمين، يلجمون ألسنتهم، ويرضخون للأمر الواقع، وينظرون إلى التبجح، والمبالغة والاستهتار بقيمة الإنسان، نظرة سخرية مكتومة، لأن هؤلاء يعرفون تماماً أن كل ما يتم على أرض غزة ليس أكثر من فقاعات، تفجّرها الريح، وتنتهي إلى لا شيء. لأن هؤلاء يثقون بأن ما يحدث ليس أكثر من ألعاب نارية، تؤدي في نهايتها إلى تدمير الرمق الأخير في هذه البقعة من العالم التي ابتليت بالمزايدين كما هي ابتليت بالاحتلال، لكن هذا الاحتلال لن يزول بالمناقصات، والوعود الوهمية، وفي ظل تناقض المواقف بين من يسكن في غزة، ومن يجلس في رام الله، هذا الكهل يعرف أن فلسطين لن تعود في ظل المصطلحات الضخمة، وإنما الذي سيحرر فلسطين هو الصدق، والإيمان بأن السلام هو طريق إلى القدس، وهي أرض المحبة والسلام.