يا صديقي، لماذا دفعتني بكلتا يديك لأدخل مسرح الدمى الدامية؟ الدمى التي ترمز إلى صورة الأم والأب وهما ينجبان ظلاً متلاشياً، وإلى تناقض الخير والشر وصراعهما الأبدي داخل النفس المغلوبة على أمرها. لماذا؟ وأنا لم أولدُ حراً إلا في الخيال، وما ركضته في الطفولة كان شبراً بين قوسين، وربما فرسخاً أو فرسخين، ليس إلا. وحين فتحتُ كتباً كثيرة بحثاً عن حقيقتي، وجدت سؤال الفلاسفة حجراً يسد تدفق أغنياتي في مساءات الخريف، وأخبرتني عرّافة أن الطريق إلى الضوء معتمٌ، وجائرٌ عليّ ليلهُ الطويل. وفي مسرح الدمى رأيتُ ارتفاع السكين في اليد الحنونة، وسمعتُ صرخةً مصدها الجدار، ومن الهمس المخلوط بالنمّ، ومن الوشوشات اللاسعة، تسربت لغة الغدر، ولكن لم يعرف أحد من هو فمُها.
يا صديقي، سأخرج الآن من نصف روحي مدركاً أن في ضياعي كمالها. وسوف أترك باب الخوف مقفلاً، وأعضّ ثلاث مرات على قفله، وأرمي مفتاحه للجالسين على كراسي الشلل. فأنا لم أولد عبداً إلا في غرف الانضباط، ولم أكبر عبداً إلا في مدارس الطاعة، ولم أنصّبُ عبداً إلا حين انحنيتُ لشهوة النفس، ونسيت أن للروح أجنحةً باتساع السماء، وللقلب عيناً ترى المطلق. وقال لي شاعرٌ مرةً إنه يسافر على جناح الورقة إلى تخوم عوالمٍ أعظم من السحر، وأنا صدقته في الطفولة، وحلمتُ مثله في صباي، وقلتُ لنفسي: الحياةُ فقاعة أحلام ملونة وجريٌ وراء فراشات ضوء.
ليس حياً إلا الذي حصانه النهر، ذلك الذي يملك أن يطفو خفيفاً فوق تياره الجارف، ويلينُ إذ تلين الزاوية في انحناءة خصرها، ويصيرُ مروّضاً لغرورها. وليس حياً، سوى الرجل الذي يلبس قبعة الجريدة ويظن المطر أخبارها، ويقرأ على صفحاتها الأولى خبر نعيه كل يوم ويضحك. وليس ميتاً، سوى الرجل الذي يظل واقفاً في مكانه العمر كله، مجرد دمية آدمية تسير مع السائرين، وتخوض أينما خاضوا. ومن يترك روحه هكذا نهباً للريح، لابد أن تقتلعه العاصفة، وتذروه في النسيان. سيقول الفيلسوف: البشر مجرد دمى في المسرح الكبير، تحركهم خيوط الرغبة، وتشدّهم غرائز الحيوان، وتُعمي بصائرهم لذة ملاحقة السراب. ولا يملك الخلاص من هذه الشبكة المتداخلة من ألغاز الوجود إلا الذي يعبر في المنطقة الوسط بين قلبه وعقله، غير ملتفتٍ لهذا أو لذاك، وإنما للطريق التي هي في الأصل بلا بداية وبلا نهاية.