الوجدان الفلسطيني لم يزل مكبلاً بالماضي، وقد استطاعت ثلة من المبشرين أن ترسخ قناعات أشبه بالصدأ في عقول البسطاء، وأن تشيع جنازة الحقيقة في نعش الأكاذيب، وأن تجدف باتجاه خيالات، وصور وهمية، وذلك بهدف إبقاء القضية الجوهرية رهن المزايدات، والمقايضات، والمراهنات، وليظل الشعب المسكين سجين مصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان.
اليوم أصبح الإنسان الفلسطيني المغلوب على أمره يعاني من هذه الكتل الضخمة من الشعارات، أكثر مما يعانيه من الاحتلال، ولكن من خسر إرادته لا يستطيع أن يحمل وزر قضية بحجم القضية الفلسطينية، والتي تحتاج إلى عزيمة غير مثقلة بالأفكار المسبقة، وإلى عقل لم يلوثه ضجيج الخطابات ذات الأسطوانات المشروخة، وإلى نفس مطمئنة لم يكدرها التخويف، والتخريف، والتحريف، والتجريف، ولم يغدر بها كائن خرافي اسمه «الجهاد». و«الجهاديون» أنفسهم يتزاحمون طوابير عند عتبات دول سوقت أجنداتها بقدرة قادر، واستطاعت أن تلون عباءتها السوداء، بلون رضاب الثعالب، وتكتسي بثياب الملائكة.
عندما نتابع المشهد الفلسطيني المصاب بالعصاب القهري، نتيقن أن القضية بحاجة إلى زمن كي يخلع هؤلاء قمصان الخديعة، ويكونوا كبشر ينعمون بالعقل الطبيعي، ولا تغشيهم غاشية العصبية الجاهلية، والتي تقوم في الأساس على شعر الهجاء، والتيه في صحراء المبادئ الخاوية، والذهاب في الوعي إلى مناطق مدلهمة كالحة، معتمة.
حقيقة لا نغضب من تصرفات الجاهلين، بل نشفق على أحوالهم، مقتنعين من أن أمثال هؤلاء مرضى، ولا مكان لهم إلا المصحات النفسية، لا نغضب منهم بل ننزعج من جنونهم، وهو الذي سيردي بهم في ويلات الاحتلال الأكثر فجاجة، وسماجة.
هؤلاء هم أهلنا، ولكنهم ضلوا طريق السواء وانساقوا وراء ممثلين يجيدون فن الدراما السياسية، ويعتنقون أدوار التراجيديا بشكل مزرٍ، ومغرٍ في آن واحد، هؤلاء تستلذ عقولهم وهم يرون الفلسطيني يطرد من بيته، لأنه قذف بزجاجة «مولوتوف» في الفراغ، ولم يصدر عنها سوى دخان مراحل النضال المؤجلة! هؤلاء تستريح نفوسهم عندما يقتل شاب في مقتبل العمر، لأنه طعن إسرائيلياً، ومن دون (جروح) تذكر، هؤلاء يعشقون الدم كما تعشق البعوضة رائحته.
ولكن برغم كل هذا الجور، فإن هناك في الطرف الآخر من النهر، يقف شرفاء لن تنام أعينهم إلا بكشف الحقيقة، والحقيقة لا تكشف إلا بالقلوب الصافية النقية، التي تحمل فلسفة الحب، وخلاصة التعايش مع الآخر بسلامٍ ووئام.