إذا كان الشرق يُعرف بسحر قصصه ولياليه، بنجومه الساطعة والقمر الذي يرسل ضوءه إلى قلوب العشاق ويأخذ شهريار في سحر سرد شهرزاد، إذا كان الشرق القديم يُعرف بفتنته بالحياة والوجود، تأتي أم كثوم كأحد أكثر أصوات الشرق جمالاً وقدرة على الاصطفاء بالروح وبهيام القلب وتجلياته العالية النقاء.
سيدة الغناء هي، الغناء الذي لا يشبه أحداً، الغناء في صدقه وحقيقته وبهجته، الغناء بأجمل الأصوات التي خلقت في الشرق، أم كلثوم حيث الصدق في الأداء، حتى شعورك بأنها العاشقة والمعشوقة، العرافة والقديسة، بالكلام الذي يدفعك إلى أن تحب، تعشق، تفكر، تطير، أن تبكي وتضحك وترقص بمشاعرك المختلجة بكل الأضداد.
حدث ذلك عندما كان للكلام قيمة وللصوت قيمة وللحن قيمة، حدث في ذلك الزمن الجميل من الشرق، زمن الأناقة وعشق الحياة بتفاصيلها الفاتنة، بالرغبة العميقة باكتشاف الحياة، بالحب النقي وتحدي الحضور بقوة، فالأشياء الفارقة لم تكن تأتي سهلة، وكان الإبداع والإصرار تاجها.
لذا تعيش سيدة الغناء حتى اليوم بيننا؛ تربى السمع على صوتها، على ألحان أغانيها والكلام، كبرنا في موتها، إلا أنها بقيت معنا في مسيرة العمر، ففي قربها يكون للحب معنى، للحياة معنى، ترسل الأشواق وترفع هيام الروح عالياً، تطبب النفس في حزنها وتنثر الدعة في فضاء البيت، تبهج الطرق وتجعل الليل جنة شرقية مليئة بالنجوم والأشجار والأنهار، الماء العذب والهواء البارد اللذيذ.
أم كلثوم، سيرة الجمال في كل تشكلاته؛ ترق خشبة المسرح تحت قدميها، تنتشي الموسيقى بصوتها وترقص الحروف والكلمات بأدائها؛ عندما تقف وتتمايل كهواء عليل يتهادى من الأعالي تدب السكينة في الآلاف من البشر، ينصتون حتى تفرح أرواحهم ويتحول الحزن وعذاب الحب إلى شعور لذيذ، ربما ترق فيه العين على القلب بالدموع، وفي ذروة هذا السكون المبجل عند غنائها تتهادى الآهات كأنها موج يبتهل.
تبقى هي في الحياة، في حياة أصحاب الأذن الشفافة والقلوب المليئة بالمحبة والخيال الواسع القادر على رؤية الموسيقى، وتصور الكلام والتحليق مع الصوت، تبقى هي في بحر الجمال فيما تتحطم مراكب وأشرعة وسفن ولا يبقى منها أثر..
تبقى هي الجمال مجسداً.
هكذا تفعل أم كلثوم وأكثر برفقة جوقة الموسيقيين والشعراء المذهلين كتاب الحب الرائعين.