هناك شتان ما بين حب التعلق، وآخر هو حب الحرية. ما يحدث في عالم اليوم وفي بعض الجهات من عالمنا الأثري، هو الناس يعشقون وفي عشقهم مذاهب التعلق والتمسك، وتملك الآخر. هذه معضلة وجودية، ربما لا يعيها من يعيشون تحت سطوة اللاشعور، ولكنها في حقيقة الأمر، هي القوة الفاعلة التي تسوط وجدان الناس سوط عذاب، وتجعلهم في غبة الهم، والغم، وفي زحمة السقوط المريع في الحفر السوداء.
التعلق بشخص، أو طائفة، أو أيديولوجيا، يجعل الأفراد يعتقدون أنهم وصلوا إلى درجة اليقين، وما اليقين إلا كائن أعمى يقود أصحابه إلى اعتقادات خاطئة، فهو كالسراب، يريك الماء من غير ماء، ويسحبك إلى مزيد من التصحر، والجفاف إلى درجة الانكسار، ثم التفتت، ثم التشتت، ثم الضياع في متاهة اللاوعي.
حروب ضروس، ومعارك طاحنة تدور بين شعوب وقبائل، وفصائل، بسبب هذا الحب الأعمى، أي حب التعلق بجدران واهية ومرافئ تصطك فيها أمواج الغضب، فتحفر في الوجدان أخاديد، وشعاباً، تطغى على جل الحقائق، وتبيد المنطق، وتجعل الناس هوام تنطح بعضها بعضاً، وتفتك ببعضها، ولا يبقى في الواقع سوى عقل خرج من العقل، ونفس أمارة تفشي الضلالة، وتنشر نخالة المشاعر في الأزقة، والنواصي.
أحلام المتعلقين بالحب الأعمى، هي طيور جارحة، ومشاعر من خشب، تحملها قلوب عجفت، فتيبست، فخارت، فانهارت، فضاعت في الخضم، كما هي القشة في أحضان الريح العاصفة.
أشواق المتعلقين بالحب الأعمى، هي قصاصات ورقية مكانها سلال المهملات، ومكبات النفاية، هؤلاء هم الذين يلونون الحياة عبر طباشير لا لون لها، وعلى سبورة متناهية في الصغر، هؤلاء هم الذين يعبثون بوجدان الحقيقة، ويحولون الحياة إلى ساحة بيداء، عشواء، شعواء، شوهاء، غبراء، هؤلاء هم الذين يمقتون الفرح، ويسخطون السعادة، ويسكبون على الزلال ملحاً، وعلى العطر نتانة، ويمارسون هواية الشقلبة على جمرات النار، هؤلاء هم عشاق البؤس، والرجس، والنحس واليأس، والبخس، والرفس، والدهس، هؤلاء هم القتامة، والغمامة، والعتامة، والجهامة، هؤلاء بقايا ما تبقى من إنسان الغاب، يكتسحون الحياة بصور خرافية من أضغاث الأحلام ونوايا ما قبل الوعي، وانكسار الضوء، وخسوف القمر، وكسوف الشمس، وجوائح ما أنزل الله بها من سلطان.
هؤلاء من أصل عاد وثمود، ومن قرى نائية في هذا العالم، جاؤوا يهطلون بعرق النهايات القصوى لبشر ما عرفوا غير الضد، وكراهية الأحلام الزاهية. هؤلاء مكبلون برايات أشبه بأجنحة نسور مهزومة، وساريات أشبه بأشرعة ممزقة، هؤلاء لا مكان لهم في عالم يشرع لأن يقبض على الفرح بأنامل أرق من وريقات التوت، وأنعم من قطنة مصرية طويلة التيلة.