قالها ألبير كامو قديماً: «من المحزن أن أكون سعيداً بمفردي»، عبارة تنطق بمنسوب عال من السيولة الذاتية، ومن فيض مرتفع القيمة والشيمة البشرية عندما يتحرر الإنسان من نشارة الخشب التي علقت بثيابه، وعرقلت وصوله إلى الطرف الآخر من وجه الطبيعة.
كم نحن بحاجة إلى أكثر من ألبير كامو، وكم نحن بحاجة إلى نزعة نفسية تفوق ببياضها لمعة النجمة، وأهداب الشمس، لو فكر الإنسان بما تجلبه الضغائن للبشر، والشجر، من هلاك، وضياع، وفقدان يفوق بدرجته ما تفعله الزلازل، وما تحيقه البراكين، وتأمل اللوحة التشكيلية التي أمامه، ونظر إلى تلك الوردة الطالعة بين ثنيات الأشجار، وأغرق النظر فيها، لعلم كيف يصبح الجمال ذا معنى عندما يصدر عن عفوية الكائنات، وعندما يأتي من غير شروط، ولا قواميس لغوية، ولا مصطلحات، ولا شعارات صفراء، ولا حذلقة، ولا زحلقة على جليد المشاعر البائسة. لو فكر الإنسان فيما تفعله الانكسارات الضوئية في النفوس، وما تصنعه احتيالات الصور الخرافية في الضمير الإنساني، حيث تحوله إلى أحفورة، نامت عليها أخاديد أزمنة البطش، والبؤس، وأصبحت تملأ حيزاً من المكان، ولكنها لا تثريه، ولا تمنحة قيمة في الوجود.
عندما تتسامح الأفئدة، تتحول إلى رياض تزخر بجداول العطاء، وتزدهر بزهرات الرمان، والياسمين، وتبدو في الدنيا جنات نعيم، تؤمها وجوه أشبه بأشعة الشمس، أشبه بضوء القمر، فلا فيها ضجر، ولا فيها كدر، إنها من وحي قلوب تزهو بريح، وريحان وثمر، هي هكذا تصبح في الوجود أنشودة مطر، وهديل الطير على قمم الشجر، هي هكذا تصبح أغنية على لسان حسناء زاهية مترعة بأحلى الصور، هي هكذا فضاء معبق بعبير الزهر، هي هكذا جمهورية أفلاطونية، مثالية في الزمان والمكان، وفي كل مستقر.
التسامح ليس جملة معترضة، بل هو عبارة فصيحة اللسان، جزيلة البيان، واضحة البنان، رصينة البنيان، التسامح هو من فصيلة زهرة الأقحوان، مبنية من نسيج ضمير، يصون ولا يخون، يمتد في دجى الليل، ليشع وميضاً، يملأ الكون رحمة، وفضلاً، وفضيلة، إنه الساعة الأولى من نهار الحب، إنه اللحظة المؤدلجة بالحنين إلى سبر البشرية، وسجية الناس الطيبين.
التسامح لغة لا يعرف معناها إلا من سار على منوالها يتقصى حقيقة نفسه، ويتملى وجوه العشاق، كيف بدأوا، وكيف صاروا وهم في حضرة التسامح.