يذهب عام 2020 إلى نهايته ولا أحد في وداعه، لكنه سيظل نقطة سوداء في تاريخ البشرية كلها. يحق للبشرية اليوم أن تطوي هذه الصفحة وهي أكثر قلقاً على مستقبلها من أي وقتٍ مضى. الأسئلة التي أثارتها الجائحة أصبحت أكبر من نظرية المؤامرة وتضخم الجشع وتحكم أقطاب الرأسمالية في مصير العالم. لقد ذهب السؤال إلى المنطقة الأعمق من وجودنا اليوم، هذا الوجود الذي استند إلى التقدم العلمي والحضاري واطمأن على مستقبله، يفاجأ في لحظة مدهشة بأن كل شيء مهدد بالزوال، ولا توجد حماية أصلاً من أي تهديد بفناء البشر. ومن عمق هذا السؤال، نشأت بالتأكيد ثقافة جديدة سوف تسم المرحلة المقبلة وهي ثقافة العزلة. أيضاً تعمّق مفهوم الشك في المسلمات العلمية ومؤسساتها وذهب المفكرون إلى البحث عن نظام عالمي جديد يقوم على التوازن والثقة والرحمة والعدالة، بدلاً من تغليب المصلحة الذاتية على مصلحة الكل.
الثقافة بأبعادها كافة، هي التي ستتحمل عبء المرحلة المقبلة من أجل صياغة مفاهيم أكثر نضجاً لتفاهمات البشر. هناك قيم معرفية جديدة تتشكل الآن، وهناك فلسفات ستعيد قراءة المفاهيم الكبرى وتفكيك مضامينها من جديد. لقد اهتزّ عرش الثوابت الفكرية برمته، وآن الأوان لإعادة بناء المنظومة الثقافية التي عليها أن تؤسس توجهاً فكرياً عالمياً يعيد تقريب البشر من بعضهم، ويكشف لهم عن أهمية أن تُبنى الحضارة على مفهوم أشمل يرى البشر ككتلة واحدة، وليس مجرد مجموعات من الأفراد والدول والعرقيات والمناطق المفصولة عن بعضها بالحدود الجغرافية والتاريخية والثقافية. كانت الفنون والأدبيات تقود هذا التوجه على الدوام، وبالأخص حين تنحاز هذه الأدبيات إلى كسر حواجز الاستعلاء والنظرة الدونية للآخر، النظرة التي أفرزت الاستعمار والهيمنة، وقسمت العالم إلى دول فقيرة وأخرى غنية، وأبقت الصراعات متأججة تحت الرماد. لقد اتضح لنا بشكل صارخ، أن خللاً ما في منطقة نائية من العالم، قد يقلب حياتنا رأساً على عقب، وما لم نعالج هذا الخلل جميعاً فإن الكوارث سوف تزداد حدة وشراسة وتوحشاً.
الدول التي استوعبت درس الكارثة هذا العام، هي التي ستسخر إمكاناتها لبناء عالم جديد أكثر تعاوناً وتكاتفاً، والإمارات التي حصّنت ذاتها بمفاهيم التسامح والتعايش والمحبة، أعطت درساً رائعاً في كيفية التصدي للجائحة عن طريق ثقافة الاحترام والالتزام، وبينت للعالم كيف أن البشر، على اختلاف توجهاتهم وثقافاتهم، هم الحصن المنيع لأي مجتمع حضاري سليم.