قف على الكورنيش، وامنح نفسك قدرة التأمل، ستشعر أنك مسترخٍ في الأبدية، ستجد أن الماء من حولك كأنه فكرة فلسفية تطوق مهجتك، والعرش المشيد أمامك يوسع الذاكرة إلى حيث لا ينتهي المدى، ستكون هناك، وهنا، وفي كل مكان، لأن المشهد أعظم من أن يتسع له العقل إن لم تتجهز المشاعر لتفسير هذا الكون الافتراضي الذي انبجست معالمه على التراب ليصبح مكاناً تؤمه طيور العالم من كل فج عميق، وتعيش على نغمات موجاته البريئة خصلات شعر انسدلت كأنها الليل تحت ضوء مصابيح، وقيثارة الأيام تدوزن ألحانها، وأنت في صليل الذاكرة تتهجى أبجدية الفرح، متنعماً ببهجة الأزرق، منسجماً مع منمنمات الصياغة البشرية، أنت هنا تحيك قماشة التناغم بحس بشري ترعرع على صوت الريح في الصحراء، صوت الريح وهي تغازل موجة البحر لترسم صورة العناق الفطري، والبوح الكوني وهو يؤدلج الحياة كأنها الإعادة لنظرية الخلق، كأنها الاستتباب للبشرية على أديم التراب الجليل، كأنها النفرة في مهج العشاق وهم يغرفون من نهل، وسهل، كأنها الفجر الطالع من بين ضلوع الجبال، وإشراقة شمس تلون الحياة بالسكب الذهبي.
في هذا الكورنيش، هناك تبدو الطيور كعازفي ألحان كلاسيكية، والرفرفة وعي وجودي يتفتق عن انبهار لما هو في المشهد من إبداع يثري الوجدان، ويمنح الإنسان نافذة جديدة يطل من خلالها على لوحة تشكيلية رائعة المنظر فائقة في الرونق، تمد للمدى بعداً جغرافياً بديعاً، يجعل من الناظر وكأنه يتأمل وجه ملائكي، تنحني له الأفئدة، وتخشع له الأرواح.
على مسافة ثماني كيلو مترات، أنت لا تمشي على الأرض، بل إن كفوفاً سحرية تحملك، وتطوف بك حول مساحة ضوئية سماوية، أسطورية، مبهرة، تجعلك وكأنك تحلق بأجنحة خرافية، أو أنك تعيش في حلم يتلو عليك قصة من قصص ألف ليلة وليلة، وتكون أنت الشهريار، تكون أنت الصب المعنى بأبدع الأشعار، تكون أنت الغض الغر، النابه في مدارات الهوى، وأنساق العشاق، تكون أنت وكأنك تقرأ رواية كلاسيكية، من عهد النبلاء العظام، تكون أنت المتفشي ولعاً في تلابيب هذه المدينة العامرة بساحل بحري لونته الأيادي الندية، بسحابة من جمال بهي وبقماشة حريرية تزهت، حتى بلغت مبلغ النجوم، وطالت تخوم السحابات الشاهقة، ورعت وجد من يسقيهم الجمال عذب التعاطي، وشهد الرضاب.