تلك الجدران المتعانقة كأنها العناقيد، ترقبك بود، وترصد خطواتك وأنت المتأمل ترنو إلى الطير المحدق في أرجائها، فيسطو على قلبك برفرفة تبدع في سخب الروح، وما بين الجدران هناك صورة لوجه كان بالأمس يشذب أضلاع الشجرة النابتة عند باب المنزل الخشبي، وهي تطل على العالم بحنين إلى الجذور، ولوعة في الصدر إلى زمن ما كان يرفل بثوب (الأطلس) الأخضر اللامع، كان ببراءة الناس الذين عشقوا رائحة تراب العين، وعبق الأزقة المعشوشبة بهديل الصغار الذين يلوبون المكان كأنهم العصافير المتدفقة وعياً بحب الأرض، وعند الأبواب المشرعة، كما هي الأفئدة النقية هناك تبدو العيون السود ببريق العفوية، تدنو من شقة في الباب الموارب، وتتأمل كيف تمر الأرواح عبر ثقوب الحياة، وكيف تتناسق النفوس وهي تسطر آيات الانسجام، ولحظات التنوير الحقيقي.
في العين يبدو الزمن يتحرك بشكل أفقي، ما يجعله في أتم ريعانه، ولم تفلت منه لحظات الإشراقة الفضية، الزمن كما هو لم يزل يحتفظ بعطره ولون جدرانه، وكذلك صمت ذلك الزقاق، والذي بدا ككاهن يتلو لمريديه المعنى في التبتل والمغزى في التخلص من شطط الأفكار الغاضبة، والمشاعر الملوثة بالغبار.
في العين لم تزل المرايا نقية كما هي وجوه الناس، وفي العين حالة استثنائية من بديع لغة الطير، وأيقونة الأشجار التي وقفت متلاصقة وكأنها تهمس لبعضها عن سر البقاء سموقاً، وعن أسباب احتفاظ الرمل بلونه الذهبي، وعن كينونة المساحة الخضراء التي سكنت المكان في هدأة الليل، وظلت تهدهد الأعشاش بحنان الكائنات اللطيفة، ومخلوقات الطبيعة الهيفاء.
هكذا يبدو وشاح العين، كأنه الطوق على عنق عذراء، وكأنه النطاق عند نحر من سترها في هيبة المعاني على محياها، واحمرار الوجنات عند الغسق، وهي تذرع المكان بخاطر مشغوف بحب المساء، وهو يسمد الذاكرة بملح البراءة على وجوه الناس الطيبين.
هكذا تبدو العين مدينة تتحضر لغد مشرق بألفة الناس، وحنايا ضافية كأنها الرغوة اللبنية، كأنها سحنة الموجة، وهي تلاطف السواحل، كأنها الهمسة من شفتين لميائتين، كأنها البسمة على جبين غض، لدن، جامح اللفتات.
هكذا تبدو مدينة العين في الدنى، كأنها الشفق في طلوعه، وكأنها النسق في تلاحمه، وكأنها الغدق في تدفقه، وكأنها الحدق في بريقه، وكأنها حبكة الرواية في تعاضدها، وسبكة الجوهر في ترصعه.