بعد سنوات طويلة من الأسفار وحيداً، أين ما هَبّت الريح أخذتني، جربت السفر العائلي لأول مرة بعد ما أصبحت بعلاً أليفاً، وملتزماً أسرياً، وبدأت أتدرب على الحقائب الكثيرة، وأشكالها الجديدة، شنطة «ميني ماوس» للحور، وشنطة «الرجل العنكبوت» لمنصور، وشنطة «باريس هيلتون» للكبرى أروى، والتي كنت أنساها مرات عديدة لأنني غير معتاد على مثل تلك الحقائب التي تشبه علب «الشيكليت»، طوال حياتي أحمل حقيبة كبيرة تشبه حقائب الحجاج، لكن السفر مع الصغار، ألزمني بأشياء خربطت حالي، وسفري، فالسفر معهم، ولمثلي كمن يطير بأجنحة صغيرة متكسرة، أنا المعتاد على التحليق بعيداً، ووحيداً، خفيفاً كسعفة يناغيها الريح، وأين ما هبّت ذرت، أما بنت تعرف مكان دِلّها، فتتدلع على قلب الأب، وتوأمان يحبوان نحو الثالثة، وأولادنا ليس مثل أولاد الإنجليز ينامون في السابعة بعد أن يشربوا الحليب الفاتر، ويندسوا في «بيجامات» قطنية دافئة، مشتراة خصيصاً في تنزيلات الـ«كريسماس» من «مارك سبنسر»، ويناموا على أصوات الملائكة، بعد أن ينصتوا لأمهم، وهي تقرأ عليهم قصة ما قبل النوم، نحن لأن البنت أكبر من أخيها بدقيقة، تريد كل شيء حقها منذ الصغر، وإن تمنعنا في تلبية طلباتها، وهي طلبات لا تنتهي، وهي لا تمل منها، أرخت تلك الشفة السفلى بكسل، وحركت عينيها في محجريهما بدلال لا ينم إلا عن كثير من الابتزاز، لذلك الأب الذي تدمع عينيه البنات، وكسب زيادة عطفه وشفقته، ولأن الصغير باعتباره الأمير غير المتوج، ويريد أن يظهر رجولة مبكرة، ما له غير أمه يعرف كيف يجعلها تناديه بالغالي، «ولا خليت وعونك»، ولو كان على حساب الصغيرة الماكرة، التي ستأخذ بثأرها في خلسة من عيون الرقباء، ولن يسلم الصغير من عضة ستحمل علامة لأيام أو نقطة ضعف شمشون شعره، وستكون خصلة من شعره في قبضتها الصغيرة، «منصور» يعتبر أي تجمع وفيه ناس، هو عبارة عن عيادة أو مستشفى، لذا سيكون صراخه محرجاً لرجل مثلي استقام مؤخراً، وصار كثير الاعتذار، ويتلوم كثيراً في الناس، لكنه سيضحكني بعدها في مواقف أخرى، خاصة حينما كنا في الطائرة المغادرة القاهرة لتركيا، حين تفهمت المضيفة الأوروبية المكتملة الأنوثة بسرعة معنى أنه بحاجة لحليب، وأنه لم يبلغ الفطام بعد، وأن تركيزه عليها يفوق تركيز أبيه الذي كثيراً ما يتحجج أنه يحب التأمل في الوجوه الإنسانية، ويمكن أن يقنع الكثيرين عدا «سهيلة» التي تصدمه بجملتها: «أحسن لك تروح تتبرع للهلال الأحمر يا إنساني»، المضيفة الأوروبية الناضجة، وكاملة الدسم، نعتت منصور بمزح: أنه «نوتي بوي»! فتلقفتها سهيلة، وأردفت معلقة على حديث المضيفة: «هيه.. ترى أبوه قبله، «لوتي» نظر عينه الحريمات»، فتقبلتها على مضض، ولا أبرئ نفسي الأمّارة بالسوء، أما الصغيرة «الحور»، فتعتقد أن المطار بمثابة بيت جدتها، وأن جل المسافرين من أهلها، فتعيث في ذلك المكان «حشرة» وركضاً، وسقوطاً على الرخام الذي تحب برودته، ولا تهدأ إلا بالمرضعة أو باليد التي تترك خدها محمراً، لتعود بعد ذلك الصراخ للهدوء، ومن ثم تطلق كلمة من كلماتها المتعثرة، والتي يصعب علينا فهم مقصدها، لكنها بالتأكيد تعبير عن عدم الارتياح، غير أنها في لحظات تنسى القصة، وتظل تدرج وتحجل على ذلك الرخام، فتسلم على رجل عجوز واقف في طريقها، وتمد له يدها اليمنى، فتكاد تفرحه حد أن تسقط من عينه دمعة.
السفر مع الأجنحة المتكسرة من أصعب الأمور، وأجملها، لكنه في الغالب مزعج حد الضجر والغضب، لرجل مثلي رأى مدن العالم وحيداً متجلياً يستقرئ المكان والوجوه والفراغ بين الأشياء، كأن يمشي الصغير واثقاً من خطواته الأولى، وتقول سيلعب مع الطفل الذي يطالعه ببراءة، فيعادله، ثم يدفعه، ولولا تهذيب بعض الأهل لما انتهت الرحلة دون شجار مجبر عليه، خاصة وأن «سهيلة» ليس عندها مثل عيالها، وأن عيال الآخرين هم «العيّالين» دائماً، لقد تعبت من الاعتذار والتأسف في تلك الرحلة التي سنستكملها غداً..