الشاعر ليس مجرد فرد تعبّر عن أنينه أو بهجته أو أبصاره اللغة، فاللغة قاصرة مهما امتلكتَ من مفرداتها ودلالاتها، ومحايدة وباردة إذا لم تُنسج من عمق التجربة المعاشة للشاعر الذي يرى ما وراء المرئي والظاهر، ويسمع النشيد في النشيج! ولأن الشاعر فضاء شاسع طلق يستقبل الضياء من الجهات كلها، ومن أعماق الروح والقلب والعقل والبصيرة، ويرسل الضياء مترعاً بنعمة الوجود، إلى الوجود، فلا جدران تشد عليه حصارها، ولا سياج يسور رؤاه وأحلامه. 
أما أن الشعر كما يقول البعض لا يكتب إلا في حالة الفقد والحزن واليأس والمديح، فإنها مراوغة وخديعة، نتيجة قول سائد ومفاهيم ساكنة، فلو ملكَ الشاعر كنوز الأرض كلها، لبقيَ شاعراً، حراً، طلقاً، كونياً، تائقاً، متشهياً، ذلك أن الشاعر لا يختار بقرار أن يكون شاعراً، بل هو قانون الطبيعة في الانتقاء، أو الوراثة الجينية، وربما هو أحد أسرار هذا العقل البشري الغامض، فحين نكتب القول العادي نعتقد أننا قد نجعل الإنسان أرقى، لكننا حين نكتب الشعر نؤمن أننا نجعل الحياة أجمل! وحين نكون كذلك لا يعني أن للشعر وظيفة، والشاعر موظف في مؤسسة ثقافية، بل يعني تماماً، أن الشاعر خارج أبداً على المواضعات، ومتحد بأفق جديد دوماً، يوقظ حدوسه، ويستشرفه ببصيرته. 
والشعر ليس أداة نعبّر بها عما نملك أو لا نملك، بل هو إبداع وخلق ولا ينبع من هذا الامتلاك أو ذلك الفقد، بل يتدفق من ذلك النبع الهائل الثراء، الهائل القدرة، النبع الذي يضيئنا دوماً، ويشعلنا حيناً حد الاحتراق لننهض- كالعنقاء- من رمادنا.. إنه الطاقة العظيمة للمحبة والجمال، وهذا النبع الهائل الثراء يملكه كامل الامتلاك كل إنسان وشاعر، لكن أن يكون شاعراً أو لا.. هذا هو السؤال الذي هتف به شكسبير على لسان هاملت. 
لكن ثمة الكثير في حياتنا وبنيتنا الثقافية ما يسيج هذه الطاقة ويربك تدفقها، وهذا السياج يذكرني بنبع «دريكيش» في شمال سوريا، فعندما اكتشفوا أنه زلال عذب متدفق بسخاء وحرية، قرروا أن يحبسوه في مكعب من الإسمنت والكونكريت، ثم أدخلوا في جوفه صنبور ضيق سعة نصف أنش، كي يقننوا التدفق، ويوظفوا الزلال لصالح المنفعة! «نيكوس كازنتزاكيس حين أدرك- بحدس الشاعر، قال على لسان بطل روايته الشهيرة «زوربا»: (يحتاج الإنسان إلى قليل من الجنون، كي يجرؤ على كسر قيوده ليكون حراً)، ولأن في كل إنسان يكمن هذا القلب الحر، سيكون شاعراً جديراً بهبة الشاعرية!