عندما كنت طالباً بإحدى الدول العربية الشقيقة في السبعينيات كنت أُعجب بهمة ونشاط ساعي البريد رغم تقدمه في العمر، وهو يصعد طوابق مباني المنطقة، يوصل الرسائل للشقق والمكاتب. وكنت أُعجب بذاكرته الحديدية التي أتاحت له معرفة السكان، وتكوين علاقات جعلته قريباً منهم، وحافظاً أسرارهم في زمن لم تكن التقنيات الحديثة قد اجتاحت حياتنا بهذه الصورة الواسعة، ويسّرت الكثير من أمورها.
أتذكر ذلك الرجل النحيل دقيق الملامح سريع البديهة مع كل مرة يتجدد فيها الجدل حول خدمات «بريد الإمارات» والشكاوى المستمرة من إنذاراتها بسرعة سحب صندوق البريد عند التأخر في سداد رسوم الإيجار التي جرى رفعها من دون أي مبرر، فلا الخدمة تحسنت، ولا الصناديق طُورت.
ما زالت بذات الحجم واللون منذ تأسيس المجموعة التي اعتقدنا وفق هيكلتها المستحدثة أنها ستعمل بروح تنافسية واقتصادية تواكب المتغيرات الجارية مع التوسع الذي يشهده السوق في أعداد شركات التوصيل، والمنافسة المحتدمة بينها، ولكنها للأسف تتعامل مع جمهورها بذات منطق الطرف القوي نحو الأضعف محدود الخيارات، فيضطر صاغراً بانتظار خدماتها.
 ساعي البريد الذي ذكرته، والجهة التي يمثلها لم يكن لديهم «الهيكل التنظيمي»، أو المسميات الاستراتيجية التي تتحفنا بها المجموعة، ومع هذا كان يلتزم بتوصيل الرسائل للناس حتى أبواب بيوتهم دون أن يتغير رسم الخدمة الذي يكاد يكون رمزياً حتى في تلك الحقبة. ولم تكن لديهم تلك النظرة التجارية البحتة التي أفتى أصحابها بأنه لا يجوز للمواطن أن يستخدم صندوق بريده الشخصي لأعماله التجارية، بل عليه أن يخصص صندوقاً لكل شركة من شركات مجموعته حتى لو كانت من الشركات الصغيرة أو الناشئة. أو أنه لا يجوز لموظفي الشركة استخدام الصندوق البريدي لها لاستقبال رسائلهم الشخصية، أو فواتيرهم الخاصة، ومراسلاتهم المصرفية.
كنت أتمنى من أصحاب الفتاوى الغريبة، وهم تحت تأثير حمى فرض الرسوم والمنتشون بقوتهم وقدرتهم السريعة على سحب أي صندوق تأخر صاحبه في تجديده، أن يعرفوا حجم الجهد الذي تبذله الدولة لتحقيق التنافسية والريادة في مجال تسهيل الأعمال. كما كنت أتمنى أن يقدموا لنا مبرراً مقنعاً لأسباب رفع الرسوم وإيجارات الصناديق البريدية، وإقناعنا حول أسباب عدم قدرتهم حتى الآن على تقديم خدمة بسيطة كتلك التي لا يزال يقدمها ساعي البريد في بلدان لا تملك هيئاتها البريدية ربع قدرات «بريد الإمارات»؟!.