يعود إلينا شهر مارس، وهو شهر القراءة الوطني في الإمارات، ليجدد كل منا عهده بهذه القيمة العالية في حياتنا، المتمثلة في القراءة والركون إلى الكتاب، والتأمل في المعاني المخبوءة في الكلمات وبين الأسطر. وحقيقة الأمر، فإن لا شيء يعوّض الإنسان عن القراءة، لا السينما ولا التلفزيون، ولا تصفّح الهواتف ومتابعة الأخبار. هناك بعد إنساني وروحاني ومعرفي عظيم موجود فقط في الكلمات، وفي الجمل التي يكتبها المشتغلون بحرفة الكتابة. والإنسان الذي يقرأ بعمق، وأقصد القارئ الذي يراكم تجربة الإبحار في عالم الكتب العظيمة، هو الذي يغرف من هذا الكنز المعرفي ما يعينه على خلق التوازن في وجوده، وتكوين رؤية خاصة به لما يحدث من حوله. وبالقراءة وحدها تتفتح أبواب الخيال، وتُشحذ الذاكرة، وتُروى بذرة الإبداع في الإنسان.
مع ذلك، فإن القراءة أنواع. البعض يتخذها وسيلة ترفيه وتسلية، ولا بأس بذلك. وآخرون يسيرون عليها كمنهج حياة، وكجزء من طريق ارتقائهم الروحي والعقلي، وهي الطريقة الأكثر نضوجاً في التعامل مع القراءة باعتبارها عملية بناء مستمرة طوال العمر. والقارئ الذكي هو الذي يضع لنفسه منهجية واضحة لعمليات التلخيص والتدوين والتحليل والتذكر وكأنه في ورشة مستمرة، بمعنى آخر اعتبار القراءة عملية «صناعة للوعي الذاتي». وكل لحظة يتوقف فيها الإنسان عن القراءة، ستشكل بالتأكيد ضموراً في الروح وركوناً للجهل. والأجمل أن الأكاديميات كلها في العالم اليوم، أصبحت تدرّس (كيفية القراءة) المحترفة. وهناك ورش عمل ودروس كثيرة حول فن القراءة متوافرة في كل مكان، من بينها كيفية التغلب على الملل أثناء القراءة وتجاوز وهم عدم الاستيعاب والضجر، وغيرها من الأعذار التي تتسرب إلى النفس وتشكل حاجزاً نفسياً لدى غير الملمين بهذه العملية. 
في بعض المجتمعات، تتكاثر ورش القراءة. ونرى مسؤولين ووزراء يشاركون في جلسات قراءة مع أطفال المدارس الابتدائية، وهناك بالطبع أندية قراءة في كل حي، وفي كل مدرسة، وهي كلها تشكل البنية التحتية الأولى التي تنبعثُ منها عملية صناعة الكتاب في الغرب. وما نريده في شهر مارس من كل عام هو أن تذهب كل المؤسسات والجهات في الدولة إلى ابتداع ورش قراءة وفق برنامج سنوي، على الأقل بين موظفيها وفي الكتب التي تخدم حقول عملها. وأن يتم تدريس فن القراءة الاحترافية إلى الطلاب في المدارس، لأنها البذرة التي يجب غرسها في الصغر.