هناك أناس متفردون في مهنهم، ولهم خصوصية الفهم العميق لمواهبهم، وجمّلوها بالدراسة، وسنوات طويلة من الخبرة والعمل الدؤوب، هم مثقفون فيما يتعاطون، وكيف يتعاملون مع مفردات عملهم الإبداعي، فجأة يأتي موظف إداري أو مدير لا علاقة له بالمهنة، ويقرر إحالة ذلك الشخص للتقاعد، فيربح الإداري معركته، لكن الوطن والمهنة والناس يخسرون ذلك الشخص وعطاءه والاستثمار في خبرته، «عيد الفرج» هذا الفنان والمثقف فنياً وموسيقياً وفلكورياً، والوطني الذي قدم الكثير منذ بواكير النهضة الفنية في الإمارات، مثالاً لما أتحدث عنه، وغيره الكثير في مختلف المهن والدوائر، غير أن الفنان «عيد الفرج» حالة أخرى، ومهم أن نتفهم كيف التعامل مع المبدعين في مختلف المجالات، فلا الحضور الساعاتي يمكن أن يقيس عطاءهم، ولا مزاجية الإداري يمكن أن تثمن إنجازاتهم، ولا الوصول لسن التقاعد يمكن أن يمنعهم من استكمال مشاريعهم الإبداعية، فقط نحن نخسرهم، مثلما نخسر وقتهم، ونخسر منجزاتهم، ونتأسف لاحقاً على لو أننا كنا وفرنا لهم الأجواء المناسبة، ودعمناهم فيما يفكرون بمنجزات يستحقها الوطن والناس والثقافة والفن في الإمارات، لدى الفنان «عيد الفرج» الكثير ليقدمه، ويدوّنه ويوثقه، خاصة فيما يتعلق بالثقافة الشعبية والفن الفلكلوري، وما علق في الصدور، وتناقلته الذاكرة الشفاهية، وما يعرف من مظاهر مسرحية في تراثنا وثقافتنا المحلية، مكان الفنان «عيد الفرج» يمكن أن يحلّ فيه شخص غيره، حديث السن، ويجيد الإنجليزية أكثر من العربية، لكنه لا يملأه، هناك فرق بين المكان والمكانة، ثم بعد كل هذه السنوات، ووصول المبدع إلى النضج الجميل، نقول له مع شهادة تقدير مطبوعة مسبقاً، والتوقيع عليها ممهور مسبقاً: «نتمنى لك مستقبلاً ناجحاً في الحياة، وخارج دائرة عملك التي بقيت فيها ثلاثين سنة تعطي، لكن التغيير هو سُنة الحياة، أجيال تتعاقب»! دون أن يدرك الإداري والمحاسب ومسؤول شؤون الموظفين أن بعض الشخصيات الإبداعية العاملة لا تقدّر بثمن، ولا يمكن تقييمها وتقويم أدائها من قبل أشخاص يفكرون بالأرقام، ويعدون الساعات، ويحبون الحضور الوظيفي أكثر من المنجز الفعلي.
لا أريد أن أعدد ما قدم الفنان «عيد الفرج» للثقافة الشعبية والفن في الإمارات، لأنه سيثقل قلبي، ويعرفه الكثير من جيلنا، لكن ماذا لو قلنا للرجل: «أمكث.. وسجّل.. ووثق ما تعرف.. ودوّن ما في صدرك، وسطرّ ما سمعت ورأيت ووعيت وعاصرت»!
نحن نخسر الكثيرين، وفي مهن مختلفة، فقط لأنهم متميزون، ولهم بصمة مختلفة، لكنهم لا يتماشون مع البنود الإدارية، وشروط الترقية الوظيفية، ولا يصلحون أن يقودهم مدير إداري، لأن تفكيرهم وأفقهم لا يدركه، ولا يعرف التعامل معه، خسرنا طبيباً جراحاً متميزاً للقلب، لأنه أكبر من الدائرة، وخسرنا فناناً رساماً مبدعاً، لأن الهيئة لم تستوعب شغفه وجنونه الفني، وخسرنا إعلاميين، لأن صوتهم عدّوه نشازاً أعداء النجاح، وخسرنا عقولاً لو صبرت عليهم المؤسسات لكنا اليوم بخير أكثر وأوسع، لذا كان أسهل طريقة للتخلص من أمثال أولئك إحالتهم للتقاعد، والتوقيع على خسارتنا لهم!