بعد معاناة طويلة مع ضبط الموعد المناسب التقيت بصديقة قديمة تربطني بها وبعائلتها جذور عميقة، فجدتي صديقة جدتها، والدي ووالدها صديقان، كما كانت أمي صديقة لأمها، وتبع الجيل الصاعد ذلك النهج فاستدامت العلاقات.
في إحدى محال القهوة «الزقرت» جلسنا في مثلث ذي زاوية منفرجة قياسها أكبر من 90 وأقل من 180 درجة، وبعد تبادلنا التحية والملاطفات تحدثنا عن القيم والمبادئ، فزرنا الماضي وقارناه بالحاضر، وتطرقنا لحديثٍ مقتضب عن المستقبل.
سألتها عن والدتها فأجابتني بنظرةٍ شقت صدري، وبجملة لا تشفع ولا تنفع حالتي آنذاك، إذ قالت: «أُمي لم تعد تلك المرأة التي تعرفينها، لقد بلغ قلبها ذروته لما تراكم عليه من صروف الدهر، فتركت الجلطة آثاراً محت بعضاً من حضور تلك السيدة»! ماذا يكون الرد عندما تكون الكلمات كالرماح التي تسير عمقاً في كياننا؟! احتبست في عيني دمعتان لا أكثر، وحاربت الأفكار التي تشوشر على تصور تلك السيدة على غير ما عهدته، فهي ذات قوة ذهنية مُلهمة مكنتها من تخطي صعاب الحياة، وفرض وجودها والعيش بكرامة وكبرياء، وهي صاحبة الضحكة التي تجبرك على الضحك، وصاحبة الصوت الذي يمزق أحشاءك عندما «تهزبك» أو تفتن عليك.
رفعت يدي للواحد الأحد وطلبته أن يحفظها لأبنائها ولنا، فهي أيقونة في الصبر والعطاء والتضحية.
جاءت القهوة و«صمصمنا عليها» وهذا المصطلح القديم قد لا يعرفه بعض أبناء الجيل الحاضر، إذ تُعِـيِدُ قواميس اللغة العربية هذا المصطلح إلى «صمصم في الأمر» أي مضى فيه، وهو ما كانوا يأمروننا به لشرب الحلول يوم الجمعة.
أدركت أن حواري معها كان مملوءاً بمصطلحات لها أصول في اللغة العربية الأم، وإن كانت لهجة محلية.
فتحدثت عن «بغية» في خاطرها ويقول صاحب اللسان: إن البغية هي الأمنية، و«السميدع» وكانت تقصد قادتنا الكرام ويقول المعجم الوسيط إنه السيد الكريم السخي والرئيس الشجاع.
جاء الطعام فتناولناه بكل سلاسة، ولم ندرك أن أذان الظهر قد اقترب. قالت: هل من الممكن أن ترافقيني إلى سيارتي، فقد أحضرت لك هدية.
دفعت الحساب والإكرامية وأعطتني الهدايا وقالت: «سنلتقي قريباً»، وهذا جمال ينتهي عنده الجمال.
للعارفين أقول: لا تفارقوهم طويلاً بل جالسوا أصدقاءكم القدامى فهم لا يتغيرون واستعيدوا معهم كل جميل، ولا سيما المفرداتٍ والمصطلحات التي تفيض بها الذاكرة تلقائياً. إنهم مشوا معنا على أرض الإمارات عندما كانت صداقتنا واللعب أهم من الرمضاء، نقيةٌ قلوبهم التي لا تعرف سوى المودة على الدوام.