هذه عبارة «سهيلة» الجامعة اللامة والسامة، حين تفرط الأمور من بين يديها، وتبدي عدم أسفها على شيء فاتها أو سفرة فرطتها، فترمي عليّ شعارها العالمي: «أنا شايفة وعايفة» مع مدّ طويل، دليل التأكيد، لكنني في الحقيقة لو سحبت «سهيلة» معي في كل سفراتي، - وهي عبارة لا تستسيغها تماماً- لكان الآن نصف العالم لم أره بعد، ولكنت ذهبت إلى لندن ألف مرة معها، من دون أن تمل هي، وأتعب أنا، لكن لأن أعذاري على طرف لساني، ولا أحتاج أن أستلف لها الأعذار، فحقيبتي ملأى، يكفيني أن أستل عذراً أقبح من ذنب، فتجده الطيبة بكبر الرحى على قلبها، وتقول مجبرة: «روح.. بس لا تطول»! فيكون جوابي الجاهز: «كله أسبوع»، ولابد وأن تختم تلك الجملة بكلمة حبيبتي، لزوم ترطيب الجو، لكن لدى «سهيلة» أمنية أن ترى أميركا اللاتينية، لاعتبارات لغوية وحضارية تعشقها، ولإجادتها الإسبانية باللهجة «الكتالونية، القشتالية، والهسبانية»، بطلاقة تحسد عليها، لذا كنت أمنّيها، وأمنّي النفس أولاً بالسفر لتلك البلدان المتوهجة لوحدي أو مع صديق يشاركني يقظة الصباح، ومتعة سهر الليل، والغوص في تفاصيل حياة تلك الشعوب وثقافاتها المتنوعة، وبين أمنيتها، وشروطي تعطلت تلك المشاوير لأميركا اللاتينية، فقد كنت بطبيعتي، خاصة بعد الأربعين «النووية» استصعب دائماً الذهاب إلى المحيط البعيد، سواء شرقاً أو غرباً، إذا لم نكن مجموعة مختارة تجعل من المسافات البعيدة، قاب قوسين أو أدنى، ومرة عزمت أن أذهب إلى المكسيك في صيف من الصيوف، فقالت سهيلة: «رجلي على رجلك.. من زمان توعدني.. ولا أشوف إلا السيرات البايرة، واللي عليها تخفيضات هائلة، واللي لها إعلانات في الصحف المجانية»! فضمرتها في نفسي غير اللوّامة
لكن أخباراً غير سارّة وصلت من المكسيك ذاك الصيف، مفادها تفشي إنفلونزا الخنازير«swine flu» فزادت على بعد المسافة، ومشقة السفر، والزحمة غير العادية في «مكسيكو سيتي» سبباً آخر، فقلت لأعرض عليها سفرة المكسيك، وهي الموسوسة من البعوض والأمراض والأعراض، من باب المزاح، بعد ما أحرجتني، وأحرجت اختياراتي، وكادت تقول إنني أسترخص الأشياء، لولا طول العشرة، وكم من عقد ألماس أهديته لها قبل أن تلد الأولاد، وأنا اليوم عند كلمتي أكثر، وعند وعدي ملتزماً، وليس مثل ما تدعي أنني كثيراً ما أخلف وعودي لها، وأن كلام الليل المعسول، الصافي، لا يصبح عليه النهار المثقل بالتعب والأعباء، و«المفاتن» على الصغيرة والكبيرة، لكنها من سمعت الأخبار، والمعاطس، اقشعر جنبها، وتراجعت وقالت: «أصلاً أنا أمبونّي من زمان ما أحب أسافر بعيد»! وأرفقتها بشعارها الدولي: «أنا شايفة.. وعايفة».
بعدها لَبَدْت، وضحكت في داخلي، لأن الروع والخوف كنت أراهما في عينيها، وربما من حسنات ما تتناقله وسائل الإعلام مرات من مبالغة، وتهويل، وتضارب لظهور أي عوارض مرض جديد، معتمدة على حكايات الناس الشعبيين في المسألة، ومخاوفهم غير المبررة، مهملة رأي أصحاب الاختصاص، أنها خسرّت «سهيلة» حتى الآن بلداناً كثيرة، بسبب جنون البقر مرة، ومرة بسبب إنفلونزا الطيور، ومرة بسبب الحمى المالطية، ومرة بسبب الحمى القُلاعية، أما حمى تصدع الوادي، فهي احتياط عندي لأي بلد، لا أودها أن ترافقني إليه، خاصة وهي من النوع «الفروق» ما أن تسمع أن المسألة فيها «معاطس» وحمى، و«لواع» وعوارض الوحم والحَمل، وهي أمور قالت منها التوبة من زمان.