المتبرعون كثر، و«الخكاكون» أكثر، والمربكون أكثر وأكثر، وكل منهم يقدم خدماته بالمجان، خاصة أولئك الذين يفرحون أنهم مسافرون، فيبدأون ساعة دخولهم الطائرة بالابتسامة المؤدبة جداً للمضيفة التي تؤدي عملها نظير أجر متفق عليه، وصابرة على عدم انتظام الساعة «البيولوجية» من كثرة السفر والسهر وتقلب الأوقات، في حين أن صاحبنا المتبرع، يعتقد أن ابتساماتها العفوية والمأجورة عليها هي له وحده، فبعضهم ما إن يجلس على مقعده حتى يبدأ بإرسال نماذج من ابتساماته، ويعطيها معطفه لتعلقه، ليشعر بذلك الدفء الأنثوي، والذي يمكن أن تسربه له تلك العاملة المسكينة أو هكذا يتمنى، ثم ينادي عليها بعد نصف ساعة، بحجة أنه يريد أن يأخذ بعض الأوراق المهمة فيه، وهي أوراق نصفها لمشتريات بطاقته الائتمانية من السوق الحرة، لكنه يتعلث بأي شيء، ويبقى يتحكك، و«يتميلغ» متصنعاً مرة الجد، بحيث يثني عليها شاكراً على كل شيء تفعله بتلقائية وميكانيكية تألفها، ومرة أخرى يظهر خفة الدم المفتعلة، لكنه في داخله لا يمانع أن يساعدها حتى في رفع الصحون.
البعض من هؤلاء المتطوعين المجانيين و«الخكاكين» المدعين، يظلّ يطرح أسئلته الكثيرة، ويسمّع المضيفة، عن الاستثمار في المغرب، والعقارات في فرنسا ولندن، حتى يكاد يغمى على المضيفة من نفحات هواء كذبه، وكلها حبائل سرية، الهدف منها جرّ رجلها غير اليمين، بعضهم يسألها وهو متأكد جداً أن فندق الشيراتون الجديد في الجزائر العاصمة، هو أفضل من الأوراسي القديم، هذا غير الذي يمتدح لباس المضيفة، وأنه جميل عليها، وحين تلجمه بأنه ثوب الشركة، ولم يكن لها يد في الاختيار، يبتسم بحرارة غير معهودة، ويقول: «ولكنك أنت من تزيدينه جمالاً»! فتستقبل المجاملة بروح رياضية وأخوية، فتشكره وهو لا يريد الروح الأخوية والشكر، بل يريد ردّ الشكر.
طبعاً.. غير هَمّ البطاقات الشخصية التي تستطيع أن تكتب فيها ما تريد، ولن يسألك أحد أو يحاكمك أحد، الغريب أن معظم الناس يكتبون رئيس مجلس الإدارة، وهو مستأجر شقة شبه تافهة في العمارات القديمة في شارع الدفاع أمّ طابقين، ولا إدارة ولا مجلس ولا رئيس، وبعضهم يكتب بالإنجليزي الرئيس التنفيذي، لأن وقعها أكبر من العربي، وكلها «كروت» لشركات يلزم أن يكون المرادف لها «ما وراء البحار أو الرويال أو الجولدن»، وغيرها من تلك الإشارات التي لا نفهمها، فمعظمهم يعتقد أن الآخرين سيحسبونه هو والخير واحداً، فقط كلّ الذي عليه أن يعطي المضيفة تلك البطاقة الملغمة أو رقم الهاتف النقال الذي يكتبه أمام ناظريها الكحيلين على أساس أنه لا يعطيه لأيّ أحد سواها أو فقط للذين يهمونه، وهي واحدة منهم بالطبع، فصاحب الرقم الذي ينتهي بأربع ستات، لا بدّ وأن يطبق المبدأ الشرعي على هاتفه، مع اعتذاري ومودتي لبعض أصحاب تلك الأرقام التي تنتهي بأربع ستات، وليتني واحدٌ منهم، على الأقل في المبدأ الشرعي.