لم يكن دخولي إلى معرض «ملامح» للفنانة الإماراتية نجوم الغانم إلا غرقاً في بحرٍ من المشاعر والخلجات والأحاسيس الغريبة. ولم يكن التجوالُ بين لوحات وبورتريهات الوجوه التي يضمها المعرض، إلا وقوعاً في أسر الذكريات المتلاشية ووقوفاً مرتبكاً في مواجهة الذات، وكأنما يتعرف الزائر هنا على شريط حياته من جديد، ويحدّقُ في وجوه الناس الذين صادفهم في الماضي، والناس الذين مرّوا خطفاً في حياته ولم يتسن للذاكرة أن تقبض على ملامحهم، ولم يُتح للقلب أن يلامس ما يشعرون به.
في هذا المعرض، تضعك نجوم الغانم مرة أخرى أمام ذاتك، وتثير فيك سؤال الفلسفة الأول: من أنت؟ ومن هم الآخرون؟ ومن خلال أكثر من ألف بورتريه لوجوه بشرية متعددة الملامح في القسم المسمى «كاتدرائية الوجوه» تأخذك هذه الفنانة، وبذكاء شديد، لتصبح شاهداً على تغيّر مشاعرك الداخلية وأنت تنتقل من وجه لآخر، ومن لوحة لأخرى وتثير فيك شحنة جبّارة من الأحاسيس وأنت ترى هؤلاء البشر في أشكالهم التعبيرية، بعضهم يصرخ بفمٍ دامٍ، وآخر يبكي وثالث مضطرب ورابع مجنون وخامس تزوغُ عيناه وهو يحدّق في فراغ الوجود. وهكذا في صعود وهبوط بين لوحات صغيرة الحجم وأخرى كبيرة، وبلغة بصرية تعتمد على العفوية والاسترسال الحر في رسم تكوينات الوجوه وخلق التعابير من خلال ضربات الريشة وفقاً لحالة الفنان أثناء لحظة الرسم، وتعمّد كسر النمطية اللونية بمزج العناصر بشكلٍ مغاير دائماً، كأن يكون الفم باللون الأزرق والعيون صفراء، وهي المدرسة التي يمنح فيها الفنان لنفسه الحرية في ابتداع (روح اللوحة) لإيصال شحنتها العاطفية للمشاهد، من غير التمسّك بشروطها الكلاسيكية في القياسات والنسب.
هذه الحرية في ابتداع الوجوه سمحت لنجوم أن تتنقّل بخفّة بين مدارس عدة من المعالجات والأساليب. أيضاً يرى المشاهد الحرية في تكوينات الكتل بين الأحجام الكبيرة والمتوسطة، والأشكال الدائرية والمربعة والمستطيلة وغيرها، يضاف إلى ذلك كله لجوء الفنانة إلى التجريب في المواد ما بين الخشب والطين والكانفاس ومادة (الخيش) وغيرها. وكأن المعرض بأقسامه الأخرى (قسم الفيديو – قسم الصور- قسم وجوه الموتى) يروي سيرة واحدة لبشر كثيرين تتقاطع أقدارهم الآن في هذا المكان.
أبدعت القيمة الفنية نينا هيدمان في تنسيق المعرض وتوزيع تكويناته بذكاء عالٍ وكل زائر لهذه الوجوه في غاليري «مرايا» في الشارقة سيلمسُ ذلك أيضاً.