في معرض الكتاب وأنت تجول بين الأجنحة، ترفرف أمام عينيك، ثلة من العناوين، فتشعر وكأنك في حضرة سرب من طيور ملونة، مزدانة بأسماء لها رونق الدهشة لتتسرب من بين الجموع وتذهب إلى حيث سقط نظرك، فتلتقط ذلك الشهاب المرقط بحروف زاهية، وكلمات مبهرة، ورسومات مغرية، تؤدي بك إلى السعي من أجل امتلاك هذا الكتاب أو ذاك.
وأنت تلف الكتاب في راحة يدك المطوية حول دفتي الكتاب تشعر وكأنك تحتضن لقية، أو حلية، وما أن تجد محطة استراحة حتى تهبط بجسدك على أقرب كرسي، ثم تبدأ بتقليب الصفحات، والقراءة المتأنية، وإذا كان الكتاب يشمل رواية فإنك تصير مع بطل الرواية في حواراته، وتساؤلاته، وانتصاراته، وإخفاقاته، تسير معه في دروب البحث عن الذات، حتى تشعر وكأنك أنت البطل في هذه الرواية عندما تتضامن مع البطل الحقيقي، وتتعاطف معه، وتتداخل مع شخصيته، وتندمج في شأنه وفنه، وتنسجم في حالاته على مختلف الوجوه.
في هذه الحالة تتذكر ما يقال، وما يتم إشاعته عن الكتاب الرقمي، فتبتسم أنت، ولا تجد ما يدعك تمتدح الرقمي، بل تشعر أنك الأقرب إلى الوريقات التي بين يديك، وأنت تشم رائحة شجرة كانت تحمل في طياتها هذه الأوراق وتتباهى بها أمام الطير الذي حلق على أغصانها، وغرد، ورفع النشيد الكوني عالياً، وصاح برفيق عمره كي يجتمعا على شهقة سواء، ويغنيان من أجل الوجود، ويجريان مقابلة روحية، تضيف إلى عددهما أعداداً جديدة من الفراخ التي ستصبح بعد حين عصافير ناشئة، تثري الفضاء بالزقزقة، وبأحلام الحرية، وطموحات الطيران من دون قيود.
وبينما الكتاب بين يديك، فأنت تحلم كما يحلم الطير وتسرد القصة لمن يأتي من بعدك، وتقص الحكاية لصغارك، فيخدشون في وجهك بدهشة وإعجاب لما للكتاب من أثر، ومآثر على كل من يقرأه، أو يسمع ما تم قراءته، فتحاول الإمساك بالجمل وكأنك تطارد غزلانا برية غنية بتطلعات كائناتها الرائعة، ولا تستطيع أن ترفع بصرك عن الكتاب برغم الضجيج الذي يحيطك، ورغم عادات بعض الناس في الإصرار على إلقاء التحيات عن قرب، والاستفاضة في السؤال عن الأحوال حتى لتشعر أنك نسيت السطر الذي توقفت عنه.
الكتاب الورقي سيظل كامنا في حضوره الجميل رغم ادعاءات ما للرقي من اختراقات مؤثرة، سيظل الورقي صامداً مثل أشجار الصحراء العريقة، مثل غافة البرية الجافة، مثل نخلة السهوب الغارقة في الحنين إلى «بيدار» صيوف الرطب، وخريف «الحيب، والنبات».