كان الفيلسوف يجلس على صخرة في العراء ويمتدح الطبيعة حين مررنا عليه. لم يقل كلاماً واضحاً، لكنه أشار بيده إلى الأفق البعيد، ثم رسم دائرةً في الهواء ورفس برجله الريح وصفّق لطائر عابر. إلا أن أدهانا قد فهم أن الأفق هو مسكن الحكيم وحلم وصوله، وأن الدائرة المرسومة في الهواء تعني أن الفراغ قد يحاصرك إن فقدت اليقظة، وواجبك أن تركل الغفلة حتى تستفيق لترى الحقيقة في شكلها النقيّ والحر، وما الحرية سوى الانفلات والتخلص من كل العوائق والتحليق بعيداً عنها.
كان الفيلسوف منكباً يحفرُ في الورق وكأنه يبحث عن كنز. لكن عاصفةً لعوبا خطفت الأوراق من تحت يديه وتركته عارياً ووحيداً تحت الشمس. عند ذلك أدرك أن الكنز الحقيقي هو أن تعرف ذاتك الجوهرية، الذات التي تراكمت فوقها آلاف الأوراق والكلمات والأفكار حتى اختفت مثل جمرةٍ تحت رماد الأشياء الزائلة. وما من طريق للتخلص من هذا الرماد سوى أن تنفض الوساوس المريضة من عقلك وترميها في الوحل، وأن تصفّي قلبك إلى أن يصبح مرآة للكون كله، وساعتئذ لن تحتاج إلى أحد ليجيبك عن معنى الحياة، لأنك ببساطة ستذوب فيها حد الانتشاء العظيم، ولن يكون هناك فرقٌ أو حاجزٌ بين من أنت؟ ومن هو العالم؟ ولن يكون خارجك مختلفاً عن داخلك.
كان الفيلسوف ميتاً حين عثرنا عليه في قمة جبلٍ بعيد. لم يخلّف لنا دفاتر أو كلمات نستنير بها، ولم نعثر بين بقاياه وأشيائه البسيطة إلا على قصاصة كتب عليها كلمة: الصمت. وكان علينا أن ننقّب في بحر هذه الكلمة دهراً بعد دهر حتى نهتدي إلى سرها الدفين. ذلك لأن الصمت عند الفيلسوف هو باب الحقيقة، وعندما يعبر العارف منه، تتجلى أمام عينيه مرايا الأسرار كلها. هنا لا توجد فروق أو تناقضات، لا يوجد شيء وضده، ذلك لأن أفكار الكمال والخلود والديمومة والأبد والزمن والمكان لا تكون حقيقية إلا بكمالها، والجاهلُ هو الذي تغشاهُ الغفلة فيرى الموت نقيض الحياة، بينما هو استمرارها. وأصحاب الغشاوة هؤلاء، الغشاوة على العين وعلى القلب، لا يرون الوجود إلا ناقصاً، وأنهم طارئون عليه، وهذه طامّة الخلق.
كان الفيلسوف طفلاً يلاحق ظله في الطرقات، ولكن حين هبط الليل اكتشف أن الظلال اختفت، وأنها ليست حقيقيةً، وأن من يطاردونها يُفنونَ أعمارهم في تصديق الوهم والتعويل عليه.