ثلاثون تذكرة سفر قطعتها للرحيل نحو عينيها، مزّقها حرّاسُ جمارك الروح ومفتشو قطارات الأمل. ثم جاء متطوعون من الأرياف وحملوا حقائبي الملأى بالقصائد ورموها في البحر، ودفعني اثنان من أصدقاء الطفولة كي أقفز في النسيان وأظل أسبح وأسبح إلى أن تنتشلني المراكب العابرة، والى أن يصير قلبي بوصلةً وتنبت لروحي أجنحة مسافرٍ قديم.
الحبُّ رقعة شطرنج فارغة، الحبُّ بريةٌ بكرٌ رمالها. وكتبَ على المارّين في دروبه أن تتشقق أرجلهم إن صعدوا لملامسة الضوء، وأن تتفتت ظلالهم إن عادوا في المساء حفاةً من غير أن يعثروا على أثرٍ لصوتها، لغنائها، لملمح مرورها على الحياة. وأنا لم أقل اسمها بعدُ خوفاً من أن ينحني البرقُ ويقبّل إصبع ترحالها في المدى. وما وجدوه في حقائبي لم يكن صورتها وهي تولدُ من ضوءٍ سحيق، ولا حذاء فرارها من حفلة الوعد، بل مجرد بقايا لكلمات ميتة. كلمات مثل (المستحيل) و(هيهات) و(النار أقوى) وغيرها. ولستُ أنا من يؤمن بذلك، ولا يدي، ولا الأقلام التي أتوكأ عليها وأنا أعبر جسر الشمس بحثاً عن نبعها.
اليوم، أفتشُ عنها في سفر الغيوم الراحلة. أعلّقُ صورتها في المنتزهات فتقول الأشجار: هل تقصدنا نحن؟ أعلّق صورتها في الموانئ والمطارات فيقول السيّاحُ: أنت إنسان يتدحرج من ماضيه في هوةٍ بلا مستقبل. وما أقصده من كل ذلك هو أن أجعل الزمن والمكان يتوازيان مثل سكة حديد أكون أنا قطارها، ووجه من أحبها هو جهة الوصول.
يجبُ أن أذكر أيضاً أن ملثمين خرجوا من الماضي القديم وصاروا يهتفون: لا للعشق وإلا أحرقنا الشعراء في الميادين. لكني لجأتُ إلى القصيدة درعاً، وبدأتُ أرسم طيف امرأةٍ تنتمي إلى عصرٍ جديد، امرأةٍ تمشي على الجرح فيصفق لها الأطباء، وتمسح رؤوس المنسيين على أرصفة الشوارع فيختفون.. وإذا عَبَرتْ في قرية رقصت لها الأشجار وعوت ذئاب الجبال ترحيباً بمعناها. ذلك لأنها المرأة التي تؤمن بأن الحب هو أصل الخليقة، وزمنها المستمر، وهو غاية كل الحياة. ولا تحتاج أن تدون ذلك في دستور أفعالها، أو تنتظر اعترافاً من المتسولين في طرقات الشك والريبة، بل يكفيها أن تصعد تلاً وتبدأ بالغناء لكي يتوحد في صوتها نشيد الكون كله.
ها أنا أقفُ على باب الريحِ بلا مفاتيح. فهل أصير كلمةً على شفتيها؟