ينسلُّ من بدني سقمي، ويهجعُ الخوفُ، وعبثاً تتكسّرُ أمواج ذاكرتي على رملٍ بعيد. هذا سيحدثُ إن فتحتُ نافذتي يوماً وأذنتُ لهواء الجهات الأربع أن يغسل جبهتي. وسيحدث أكثر من ذلك، إن صعدت عمارةٍ شاهقة ورميتُ من أعاليها قمصاني الممزقة لتصير طيوراً مهاجرة، وبقايا من كلمات ندمٍ نسيتها، ولكن آهاتها لم تنقشع بعدُ من جسد الكلام.
ترى، من أنا الآن هنا؟ ماتت خيولي في أول الدرب، ولا زلتُ حائراً بين الأبيض والأسود أراهما يتداخلان في رقعة الشطرنج وكأنهما يتخارجان. وأحتارُ أيهما هالكٌ لأنفرَ من تبعيّتي لمعناه، وأيهما محنّكٌ وعصيٌّ كسر شوكته بالمطارق أو حتى بالحديد؟ والأبيض والأسود ليسا ضدّين إلا حين أكتب اسميهما على ورقة، وقد يختفيان إن رميتها في النار ورقصتُ من حولها ضاحكاً على فكرة الأضداد، هازئاً من العقل حين يختلط مجراهُ العذبُ بملوحة المسالك الوعرة، ولا تصل مياهه نقيّةً إلى فم العطشان أو الحائر أو الغريب.
نمّامون، وسعاةُ بريدٍ مكممةٌ عيونهم، وأطفالُ شوارع لا ينحنون إلا للبرق، وبعضٌ من فلول طرشان ومشرّدون وعجزة. هؤلاء هم جمهور مسرحيتي الصامتة. أصعدُ الخشبة باعتباري رمزاً لرجلٍ يريد الكلام على الملأ. لكن الملأ يريدونه أن يصغي لذاته. وأصعدُ الخشبة باعتباري الضمير الحيّ، لكنهم يرمونني بالأحذية وبالأمشاط وباللبان. ثم تقفُ امرأةٌ وسط الحشود وتقول: هاتوا لسانه لنكويه علناً كي نُخرس الأقلام المائعة. وأنا علناً أشقُّ ستارة الفرجة وأسمّي هذه المرأة: حبيبتي العاطلة عن العمل.
هنا المكان، هنا الزمان، هنا الورقة. هنا صوت رجل يحاولُ أن يكبح تشظّيه بأن لا يلتفت إلى الماضي لأنه بركة سباحة فارغة. ويحاولُ أن يفرش سجادة حمراء على طريق المستقبل، لأن المستقبل مهرجانٌ مفتوح لمن ينطّون نطاً عالياً على حواجز الزمن، وعلى الأفكار المريضة والمروّضة والرخوةِ أعصابها.
هنا الفردُ، هنا الجماعة، هنا الأنا. وأقصدُ أنني قطرةٌ في البحر، فكيف أغرق؟ وأقصدُ أن الناس ترى فستان الحقيقة، ولا يهمّها من أي أصلٍ أتت، ومن في هذه الليلة عريسها.
هنا الأنا، هنا الأمُ والأبُ. وهنا الفيلسوف الذي يعبد الكلمات المضيئة، أو على الأقل نصفه الحقيقي، بينما نصفه الثاني جرسٌ معلقٌ في خرائب الوقت الآتية. ولو يكتمل هذا النشيد، لو يذاعُ على المصابين بالغمامة الجاثمة على القلب، لصار صدحاً في صباح يومٍ جديد.