ستقول امرأةٌ غداً: كان الرجالُ يفرشون تحت أرجلنا ورود الأمل. وتنطلق صافرات رجال المرور كي نعبر الشارع رغم أنف السيارات الفارهة. وإذا عطست امرأةٌ في السوق، هبّ لإسعافها باعة الذهب والخواتم. ولو وقفت تبكي على الرصيف لاحتشد من حولها الأنفارُ وطبطبوا على حزنها بريش المواساة، وكنسوا دمعها بقطن كلماتهم الطيبة. لكن غداً هذا لم يأتِ بعدُ، وزمن المرأة التي كانت تظنه يجري مستقيماً للأمام، صار محشوراً في بوصلة خربة، وصار الأمسُ نعلينِ متروكين عند بابٍ لم يُفتح، وصارت الشوارع عروض أزياء للسيارات اللامعة. شيء ما، ريحٌ ما اسمها (ضياع الجوهر) لفحت قلوب الناس فانفرطوا مثل مسبحة الزاهد، وتناثروا على أرض المتاهة، وتشتتوا في سؤال الوجود: من نحن؟ ومن يملك الزمن؟ ومن يبيعه قسطاً قسطاً على المنتظرين وقد تخشّبوا، وبعضهم فارقتهُ الألفة، والباقي مضمحلون.
ستقولُ امرأةٌ فقدت حبيبها في المطار: تكفيني الذكريات. عندما كانت القصيدة يوماً رسالة حب حقيقي، والصمتُ طابعُ بريدها. وعندما كنّا نضحك على الغيمة التي تغادر بغرورها، لأن مليون غيمة ستأتي بعدها. لن أخاف بعد اليوم، وأدرك أن الرجل الذي أحببته صار يسكنُ في ذيول الطائرات المغادرة، وأن قلبي، حتى لو صار علكةً في فم الزمن، عصيٌ أن يذوب في مدن الوحشة والحرمان والتيه. كان ذلك ضعفاً حقيقياً لكننا داويناهُ بمطلق الحب، بمعنى أن تُحب العصفور، ولكن عليك أن تطلقه حراً في السماء وتجلس مكانه في القفص. وبمعنى أن تحب ذاتك بأن لا تجعل الآخرين موضوعها.
هنا امرأةٌ كانت في طفولتها تحرث الحقول، هي اليوم موظفة استقبال في مستشفى الولادة. هنا نساءٌ كن يقفن طوابير عند بائع اللحم، هن الآن نباتيات ويمارسن اليوغا في الهواء الطلق. كيف لا، والتلفزيون يروّج للشامبو وفن إخفاء التجاعيد. والإذاعة تبثُّ الأغاني الرخيصة كي تجذب رواد الفراغ إلى أثيرها. وكأنما امرأةً اسمها (الحب الأوّل) قررت أن تخرج من اسمها وتنتمي لمولد الفراشة، وللبدايات التي لا تنتهي.
ستقولُ امرأةٌ بعد ساعات: كان الرجلُ شجرة البيت، وهو الآن سور الجدار. يكتب الأطفالُ على ظهره كلمة (العائلة) لكن عمّال النظافة يمسحونها في الصباح. وتُقبّله زوجته على رأسه حين يخرج للعمل، لكنه يعودُ حافياً، بلا أسماك في يديه وبلا نظرة حُب في عينيه. فهل انكسر غصن شجرة الزمن؟ أم أنها الريحُ اشتدّت قليلاً، ومطّت جسده الهزيل من يديه ورجليه؟