بدأ الليل يهدهدني.. العتمة تعزف أوتار السكون.. الضوء ينسل خفيف الخطى إلى ما وراء النافذة.. الأزهار تلملم عطرها.. الغصن ينحني على مخدة الأثير.. بين لحظة ولحظة، بين عصر وعصر أرى، أنصت، أرقب، أتأمل.. ضجة الكائنات في الليل تنبض بصوت يشبه الهمس.. إشارات الوجود تتدفق كالسيول في يقظتي وأحلامي، لأستشرف الجوهر في طبائعها والسر في كينونتها وحضور كيانها في الظلال الشفيفة التي تحيط بي، كما يختمرُ العنب ليكون شهياً، عذباً، يدفق البهجة في شفة الحالمين. قناديل الصيف أطفؤها لأوغل في سبر أسرار الوجود، وفي تجلي كائنات الطبيعة بتعدد أشكالها ومزاياها، وفتنة الأشجار والنباتات التي نعجز عن وصفها، ونعمة وجودها وأسرارها التي جعلت من هذا الكوكب الفريد وحده حضناً للحياة والوجود. ففي خفايا أسرارها ما لم ندركه بعد، رغم اجتهاد العلماء والباحثين الذين تطاولوا في التجريب والصعود إلى الفضاء في هذا الكون الغامض الرحب في اتساعه، وفي استغراقي في التأمل أتساءل: لماذا النهار يرتخي إذا أغمضت الشمس عيونها، والظل يفيءُ على أرواحنا، والنسمة ترفُّ، والقمح في عناقيده يكتملُ، والتفاحة تنضحُ في موسمها، وراية الإمارات تتضوأ على كل ليل ينسلُ، والعشق يحتفي بالمعشوق، والعشب ينهض من قبلة المطر، النجوم تترقب عتمة الليل لتشرق، النهر يَشتهى التدفق، التوق يبحرُ في لجة الأحلام كمجداف يشقّ لجة الحاضر، والمرآة أنثى تتضرع وترتجي حضور المعشوق، والكتاب يدوّنُ ما اختمرت به الرؤيا وشط به الخيال، والقلم قبل أن يتهيأ للنقش على ورق الحضور، انكسر على مصطلح الأفول.
سلال التأمل تتهادى في انتظار الكشف عما أنتوي، العمر يتسارع ويتكاثرُ في صفحة الأيام.. مصباح رؤيتي يضيئني لأهتدي به، مثل طفل يدرج في أروقة السنين، لائي تنتصبُ دوما لأقرَّ وأرفض، كسنبلة تكتنزُ حيناً وتتناثر بقسوة القطف، لكن الحلم ينهضُ مثل فراشة تغزلُ عشها، أو أيقونة تتمردُ على تفسير غيبها، لأن ضياء المعرفة والتأمل والإبحار في سرائر الوجود، قافلة تقفو خطاي كلما أوغلت العتمة في أفق حياتي، مثل طين يشتهي مطراً يشي بحنان الماء على قحله ويطوق السماء ببرقه وخصوبة السحب، فهل تفي السحب بوعودها على سماء بيتي في «المرقاب» الذي أقحلت أشجاره ونباتاته، خيانة السحب حين تمر عابرة فأنتشي وتتمايل الأغصان ترحيباً، فيرحل من نسمة عابرة إلى الأقاصي ويتركنا نئن من الجفاف، فالسحب لا تفي بوعدها، وخفقنا يضج بالأسى، وورق الشجر يتساقط بينما أخطُّ أنا تأملاتي على لوحٍ قد يمحى بشطحة التكنولوجيا.
ها أنا كأس أحلامي ينتظر الرشف، وقافلة الخيبات تبصم اصبعها وتُختتم..!