لستُ متكئاً على ظلٍ لأسقط عند اشتداد العاصفة، وليست الكلمات ثُقلي ليغرق قاربي في النهر. ولدتُ وسط ضجيج الأمهات وزغاريدهن الأعذب من كروان. ومَسَحتْ على رأسي أيادٍ ألف، وأذّن في مسمعي مفوّهون وأهلُ منطقٍ ومحاججات. وكان عليّ أن أصغي وأكبر لأصير منهم، أن أخوض مع الخائضين في البلبلة واللغو، وأستحضر العقل في غير موضعه، وأبحثُ عن سبيل مهادنة إذا اختلط الحابل بالنابل، وفقست بيضة الشك وسال دمها على رؤوس الجميع. لكن شيئاً ما، ربما سرب بجعات مسافر، وربما نداء نجمة لعوب، شدّني لأدخل في طريقٍ منسي وقفرٍ ويخاف وُلوجه أشدّهم حكمة وأفطنهم رأياً. كانوا يسمونه طريق الغواية، حيث الداخلون فيها ساقطون لا محالة في الشطط، والخارجون منه معتوهون وينتفي العقلُ من نطقهم وصيحاتهم النافرة.
حدث هذا للشاعر أولاً. يوم قرر أن يعلن رفضه للمنطق الجاهز، فقام ورفس باب الانصياع وخرج يركضُ ملاحقاً الغيمة حتى تلاشت وراء الجبال. وحين جنّ عليهِ ليلُ الخائفين، حمل مرآة صنعها من ماء النهر، وقال لقمر المساء: أنا هنا قناعك فابتسم. ثم أوقد ناراً وسط الغابات وهو يدرك أن الثعالب والذئاب التي تراقبه، لا يمكنُ أن تروّض إلا في القصيدة المغايرة، في النص الذي يبدأ بكلمة لا، وفي الجملة التي تسعى لهدم مكامن الريبة وتتفتحُ مثل بركانٍ ملّ من الخمودِ طويلاً في الصدور. نعم، سيتجرأ الشاعر على نطق أول حرفٍ جديد على شكل صرخة، على شكل عواء يخلخل سكون المطمئنين. وبالنسبة للشاعر، يولدُ العالم الحقيقي هنا على الورقة ويصير ملاذ الباحثين عن الحقيقة والمطلق واللانهائي. وتولدُ الحرية هنا على الورقة، وتصير ارتحالاً عذباً في جنة الصور والأحلام المستحيلة. وسوف يظل الشاعر مستوطناً العزلة التي سورُها المدى، وزمنها سرمد الأيام، وأبدُها الكلمة حرةً على الدوام وإن لم يتجرأ أحد على الغناء بها.
وسيحدث أكثر من هذا للشاعر حين يعود يوماً إلى المدينة مفتشاً عن دفاتر الطفولة، لكنه لن يجد سوى شجرة التكرار وقد ارتفعت بأغصانها الذابلة. تحتها يجلسُ المترددون لا هم ينتمون إلى نعم ولا هم ينتمون إلى لا. مجرد ألسنةٍ تجترُّ علف الماضي وتردّد ما قيل، وما يرادُ له أن يقال. بينما الشاعر يختار أن ينتمي إلى المستقبل، يزرعُ قمر الوضوح في سماء الذاهبين إلى نهايات المدى، وتصير القصيدة في يدهِ، إيذاناً لكل عرس.