عبد الرحمن البناي، بسحنته السمراء، وقامته الهيفاء، ولكنته الباكستانية المرهفة، كان في ذلك الزمان، الفنان والمهندس والقائم بأعمال البناء لبيوت تحررت من السعف، لتسيج لها جدراناً من الطوب، وتحفظ ود الساكنين مع طبيعتهم الساخنة صيفاً، الباردة شتاء.
في المعيريض لم يكن ساعياً بين الأزقة سواه، يتفحص الجدران، ويمحص المكان بعينين سوداوين، عميقتين مثل خريطة بلده الممزوجة بغزارة التاريخ، وفيض المعتقد، والقيم الرخية.
كان الرجل يحيط بالمكان بعاطفة، جلية، سخية، وكان يطوق أهل المعيريض بسلسال مشاعر أدفأ من تلك الجدران التي ينسق طوبها، رويداً، رويداً، ويصف حلقاتها بسحابة من سيل أسمنتي أسمر، كما هي ملامحه، وكان الرجل يقف على تلة خفيضة ترتفع عن موطئ الأرض التي يسير عليها الناس، ويتملى استقامة الجدار الذي بناه، ويعمق النظر في المساحة ما بين الأركان، والزوايا، حتى تطمئن نفسه لنجاح الجهد الذي بذله، ثم يرفع عينيه، ويحدق بصاحب المنزل، والابتسامة تستغرق وقتاً طويلاً، وهي تتمشى على صفحتي وجنتيه، ثم يجلس عند ركن قصي، ويشعل السيجارة «الروثمان» الإنجليزية، ويسكب من إبريق معدني شايه الأسود المفضل، ثم يدلق من عبوة الحليب ما يملأ فراغ الكأس، ويطلق النظر إلى الفراغ، ربما كان يفكر بالزوجة والولد، وربما كان الشوق يأخذه إلى تلك التضاريس في بلاده، وقوام الزوجة المفارقة.
الصغار كانوا يتحلقون حول عبدالرحمن البناي، وكان يغدقهم بحنان أبوي مشفوعاً بما يدخره من نقود قليلة، ولكنها كانت تجلب لهؤلاء الصغار الحظ، كما تفي بغرض شراء الزلابيا، والمنفوش، وغير ذلك من السكريات والتي كانت في ذلك الزمان تعادل المشروبات المتطورة في زماننا هذا، الـ«نس كافيه- والتركش كوفي - الكاباتشينو».
كان الرجل يستأنس بوجود هذه الأسراب من أطفال يحتفون بوجوده، ويتزحلقون على أكوام الرمل المعدة لمشاريع البناء، ويتمرغون على (السحيم الأبيض) منتمين بإخلاص إلى أُمنا الأرض.
لم يسعده الزمان الجديد، فمع المشروبات الحديثة، انبعثت حياة أسمنتية مناهضة، لما كان البناي يقوم به، فقد عمت الحداثة في كل الأنحاء، وانسلخت الأبنية القديمة من عاداتها، كما انبجست في النفوس رغبات، وطموحات تنسجم مع تطور العصر، ولم يجد عبدالرحمن البناي مكاناً له في هذه الجوقة، وبعد ردح من الزمن، شاهدت البناي يصطاد الملح من السواحل القريبة من منطقة المطاف في المعيريض، لمحته يتغبب حتى ركبتيه في الماء المالح، وينصب عازل الماء ليجمع أكبر كمية من الملح، وكان الرجل على الرغم من الشقاء الذي يصادفه في تلك المهنة، إلا أن ابتسامته لم تغب، وطموحه في العيش الكريم لم يضمحل، حتى وافاه الأجل بعد سنوات من مقاومة المرض.