لذة وضع الرأس من التعب تختلف من شخص لآخر، تذكرت قول صديق إنه يمكن أن ينام على صخرة حينما يكون منهكاً تعباً، وتذكرت حال صديق آخر، كان لا يسافر إلا مع مخدته، يقول لا يأتيني النوم إلا عليها، ولا يهنأ لي أن أضع رأسي إلا في مكان آمن أعرفه، تجده من مطار إلى آخر، وهو «يشالي» بتلك المخدة، يحملها مثلما يحمل رضيعاً، وإن وضعها في الحقيبة أخذت نصفها، أما حالي فهو بين.. بين الصديقين، مع فلسفات ناقصة في قراءة المكان، بحيث يمكن أن أنام على الطَّوى، جوعاً، وأركب في «ركشا» إن تعذرت وسيلة النقل، ولكن لا بد من فندق عالي المستوى لكي أنام قرير العين، وإلا سيظهر لي ذلك الوسواس الخناس، لأني سأبحث عن قصص لهذا الشرشف الرخيص، والذي ما زال يرخص يوماً عن يوم، وتلك المخدة الرخوة، والتي تبدو بائسة حينها، وأتحسس مرتبة السرير إذا ما كان هناك أي بلل أو رطوبة منسية، والغرفة إن لم تكن تلمع من النظافة، يكون إبليس قد سبقني إليها.
لكن السفر إلى المدن الموغلة في التاريخ، والتي نسيها الناس في غمرة المعاصر، وما برحت تدق بوابة الذاكرة الجماعية عند أناس مخلصين للحكايات، وسرديات المساء مثلي، هي مدن تختلف، ولا تحب أن تتنازل، فتلزمك لأنك تحبها أن تتخلى عن متطلباتك المرفهة، ولو كان جيبك عامراً، فأحياناً لا قيمة للمال، إنه مجرد ورق مصقول، ولا يمكنه أن يجلب لك غرفة فندقية من التي تشعرك، وكأنك متقاعد جديد، تسمع هسيس القطن الأبيض الأصلي لأي تحرك أو تقلب منك، يحضر لأنفك رائحة عطر أنثوي كثوب فتاة تحبها، وتعرف كيف تخبئ لك شيئاً منه في أماكن تغفل عنها.
في الطريق إلى طشقند صبرت على ذلك الطريق المعمول بعرق الجند، وبمهارة في غير محلها، وتلك الأنفاق شبه المظلمة، والتي لا تختلف عن مناجم الفحم، وجبالها تشعرك وكأنها كلها خلقت للحروب والمناوشات، وأن سهولها كانت دوماً مركضاً للخيول التي تسابق الريح في تلك السهول والسهوب الممتدة بُعد النظر، كانت الطريق من «دوشنبيه» العاصمة الطاجيكية متعرجة بين الجبال وعلى حوافها، والتي تظل توحي لك بقصص متخيلة عن الانحدار والانزلاق أو كتلة حجرية ظلت تتدحرج بقوة عربة النار، وتريد شيئاً يمسكها أو تدهسه، تغمض عينيك وتفتحهما على الواقع طرداً لذلك المخيال، تظل تحسب الساعات حتى مغيب الشمس، فيجبرك طول الطريق على المبيت، مثلما تجبرك مدينة الشاعر الطاجيكي العظيم «كمال خوجندي»، «خوجند»، وتقول: سأحط الرحال متأنساً بليل وكلمات هذا الشاعر الدرويش عاشق الليل، ورضاب من يعشق.
كان فندقاً أقرب للـ«مسافر خانه» أو الخان، ذاك الذي دلّني عليه سائق السيارة الطويل الضعيف المسمر، والذي يشبه بائع الجواري في عهود قديمة، المدخل مدخل بغال، والغرف مزينة بذوق شعبي معاند، من ذلك الذي ينتقي من كل دكان حاجة، فعجين الألوان سكت عنه وقلت: هي ليلة، ونسرح في فجرها، نمت ساعة من التعب، وإذا بتلك الألوان الصارخة تهزني من مرقدي، وتقول لي: قم، فمرة تتخيل لي الغرفة مثل علبة بسكويت بألوانها الساذجة التي تشبه بالونات عيد الميلاد، لكي تسكت الفم عن طعمها غير المستساغ، ومرات تتراءى لي كعلبة شوكلاته إنجليزية «ماكنتوش» تتناثر في سقفها، ينثرها ذلك المهرج العجوز المشبع بالألوان، كان هناك لون بالتحديد يتصالق، ويشبه ثياب امرأة مبتدئة على الطريق، تحس أنه يقبض يدك، ويهزك، ألوان تصرخ من الارتواء، وأخرى من الحرمان، ألوان تريد الهرب، لا تطيق حالها، ألوان متصابية وأخرى باكية، كانت ليلة أشبه بحفلة تنكرية أو «طماشه في بمبي»، هربت من تلك الألوان التي تشبه شياطين صغاراً من المهرجين بالمشي في ليل المدينة، والذي وحده من يعرف، وتعرف لونه الوحيد!