ما بين الضجيج الصعب، وما يورثه من قادم التفكير، وأشد ما يهيج الأيام القلق، ما يحدث من تصلب جسيم تجاه الثقافة، لا يفسر صنيعه، وكأننا أمام عالم يحتضر حضارياً وفكرياً، فما أبعد التراكمات التاريخية من تراجعات تبحث عن النور، فالأيام لم تعد تنطفئ جذوتها، وكلما اتسع محيط الحياة حضارة وقيماً وثقافة، كلما تجددت بين شعوب العالم لغات التخاطب، واحتدمت أحياناً، للمفارقة، مسارات سلبية أيقظت ماضيها المكفهر والمتجهم! ولذا فإن ربط الثقافة ببعض الأحداث العالمية مجازفة، قد تجر الزمن نحو وأد كل شيء جميل متمثل في مشتركات الثقافة العالمية، في علاقاتها الإنسانية، وحوارها ومثاقفتها، وهذا عالم وذاك عالم فلماذا يسعى البعض للتشويش على جمال الحضارة الإنسانية المشتركة بالسعي للتلاغي لا التلاقي.
وإلى وقت قريب كنا نشيد بالعالم الحر ومكتسباته الثقافية، ونشيد بحضارته دون أمم أخرى عديدة، تحضر بدلالاتها الجميلة، دون استدعاء ولا تكلف، واعتياداً كنا نشعر بهذا الزهو الإنساني في قمته، مستائين مما قد يحدث من تراجع في غياهب التاريخ، الذي تم تجاوز صور كثيرة من أعباء ذاكرته، لكن رائحة الدخان تعلو من جديد، بين فجوات زمنية، لتنبش القيم الأصيلة، ويحضر التلاغي الثقافي بين أطراف مختلفة من العالم، وكأنه يسترجع شيئاً من أعباء ذاكرته الغابرة.
فلا يمكن أن تقصى ثقافة من العالم، وأن تعاقب العقول وإدراكاتها، أن تقف أمام التواصل الثقافي الإنساني الجميل السمح، وأن تحد منه وهو في طور التجلي المعرفي، ولا يمكن أن تقصى الثقافة كرسالة تواصل بين الشعوب، رسالة متناغمة ما بين أجيال تعيش حقبة ثقافية رائعة، لتستمتع بحضارتها الأممية المشتركة. هذا التعايش الجميل في لغة الذاكرة ولغة الشعوب والنضج الإنساني الذي تعيشه الذات البشرية، هل يمكن أن تعاقب مهما كانت المسببات؟!
أصبحت الثقافة تُحجر بالجامعات في بعض دول العالم الحر، ورموز الأدب تعاقب من قبل بعض الأمم المتحضرة نفسها، ومع ذلك قبل أعوام أدانت هذه الأمم، وكل الأمم، تحطيم المنحوتات وجرمت من قام بتلك الأفعال ووصفته بأشد الأوصاف، وهو يستحق ذلك وأكثر، ولكن عادت أيضاً، للمفارقة، لتخبرنا بأن زمن التناقضات يحضر من جديد.
فماذا يحدث حين تتخلى بعض العواصم الثقافية العريقة عن روحها، لتعتنق الحد الثقافي، ولتحد من التواصل الرياضي والمشاريع العلمية الملحة والهادفة؟
أما حان الوقت لتتحرر ثقافة العالم من فتور العلاقات، وأن ينضج الخطاب الثقافي القيم، من التداعيات الصعبة، إذ إن ما يجب أن يسود هو ثقافة القيم والمشتركات الإنسانية العظيمة، والمعززة للمحبة الإنسانية، والبحث الحميد عن جوهر التقارب الفكري الذي تؤمن به الحضارات مجتمعة، فالثقافة رسالتها بعيدة كل البعد عن الخطابات المتأزمة والمتأججة، وهي أبعد ما تكون عن الصور النمطية وترجيحات المفاهيم، وما تعنيه من تشكلات مؤثرة قد تحضر فيها الإقصاءات الثقافية الأممية والدولية، في سياق عالمي، ولأي ظرف كان.