الاقتراب من الحقيقة لا يعني التعرف عليها أو اكتشافها، لكنه مع ذلك يعد إنجازاً لمن يبحث عنها. الفلاسفة الكبار جميعهم، لم يقولوا يوماً بأنهم أدركوا الحقيقة أو عرفوها، وإنما كان يكفيهم إثارة الأسئلة دائماً وعدم الركون إلى التسليم إلا بما يقبله العقل. على عكس أصحاب الأفكار الضيقة الذين يقعون أسرى الوهم، ويصدّقون أنهم وحدهم من يفهم الأشياء والكون على حقيقته. وهؤلاء هم الذين يصدّون أبواب عقولهم عن الحوار، ويتجهون إلى نبذ الآخر والتصادم معه. وآفة كل مجتمع هم هؤلاء المنغلقون على الذات باعتبارها جزءاً أو كياناً مميزاً ومنفرداً بذاته، إذ يؤدي انتشارهم وانتشار أفكارهم الغارقة في الذاتية إلى انغلاق المجتمع وموت الأفكار الحرة المبدعة وعدم القدرة على التعايش مع أي مقولة أو فكرة جديدة.
على عكس المجتمعات المتخلفة، نجد الأمم التي تبنّت الانفتاح هي التي تقدمت. وأوّل خطوة في الانفتاح هي منح العقل الحرية في التفكير وعدم تقييده بحواجز من أي نوع. وعندما يتحرر العقل، تتحرر الروح الجماعية للمجتمع، وتتولد طاقات الإبداع الخلاقة فيه. أما الخطوة الثانية المهمة، فتكمن في الحوار مع الآخر المختلف، وهي فكرة فلسفية في المقام الأول، كون النظرة الذاتية المغلقة ترى الفرد وحيداً ومنفرداً بنفسه في العالم، بينما النظرة الكونية الشمولية ترى في الفرد جزءاً من نسيج الكون وذاتاً لا يمكن لها الانفصال عن محيطها الكوني. وكلما ذهبنا إلى إذابة الفروق والتمايزات بين البشر، خلقنا مجمعاً أكثر ثراء وجمالاً وتقدماً.
تقاس المجتمعات المتقدمة بمدى حضور الحسَ الإنساني في حياتها اليومية. حيث الشعراء يصدحون بقصائدهم الحرة في المنابر والشوارع والمهرجانات، وحيث المبتكرون والعلماء يجدون المؤسسات التي تتبنى أفكارهم ورؤاهم، وحيث تصبح لغة الفنون ممارسة يومية تبدأ من مدارس الصغار وتكبر إلى لغة التفاهم بين الكبار. هذه المجتمعات هي التي تُزهرُ فيها أشجار الحرية والعذوبة والجمال، وتصير بالتدريج مقصداً للباحثين عن أمل جديد للإنسانية، حيث لا فرق بين هذا وذاك (المختلفان) وإنما سعيٌ من كليهما للتكامل والتعاون من أجل مستقبل آمنٍ ومستدام.
لهذا السبب، تعد القصيدة المكتوبة في عدّة أسطر، واللوحة التي تهدم نمطية النظر إلى الأشياء، أساسيات جوهرية في كل مجتمع. وهي لبّ تطوره الحسي والجمالي. ووجود مثل هذه الأمور المدهشة بيننا، هو ما يجعل من حياتنا، حياةً تستحق أن تعاش.