لا عزاء يليق بالإمارات في رحيل أب حانٍ على الجميع، ووالد يحاظي الكل والجميع، وقائد للوطن في مرحلة التمكين، بعدما عاضد القائد المؤسس، وكان عينه ويده والكتف الذي يستند عليه في الملمات، وصعاب الأمور، إن كان في نهضة أبوظبي أو في تأسيس دولة الاتحاد.. رحل الشيخ خليفة بهدوء مثله تماماً، رحل راضياً مرضيّاً، والكل يحبه، ويدعو له، يتذكره، ولا يقدر أن يسلاه، وهو الذي كان مثل نسمة باردة في سماء بلادي، وظلاً وارفاً أخضر ينشده البعيد والقريب، ويتفيأ بخيره القاصي والداني، كان الاتزان والركيزة وبُعد الحكمة وناقل الأحمال الثقال، كنا نراه مثل البشارة، ونرى خير زايد يتبعه، كان عزاءنا حينما وارينا العزيز والغالي تحت الثرى، وكان عزوتنا وتاج رؤوسنا، به سلكت الإمارات آفاقاً جديدة، وتمكنت من تثبيت ما في الداخل، لترى الخارج بعيون التحدي والمستقبل، والتمكن من الجديد والحديث، وخلق ذلك التميز.
الشيخ خليفة.. ليتها ما بكتك العيون، ولا انفطرت برحيلك القلوب، فأنت ضحكة الوطن، وابتسامة الإمارات، ولعلني الآن أتذكر أول مرة رأيت فيها الشيخ خليفة، كانت في المدرسة النهيانية القديمة، كان في الصفوف المتقدمة فيها، لكن الصورة الحقيقية التي بقيت في ذاكرة الصبي من العين القديمة، صورته وهو يسوق سيارته الصالون السوداء الطويلة، مرتدياً نظارة شمسية سوداء، وخنجره المذهب، بذاك الطول الجليل، وغترته البيضاء وعقاله المبروم والمفروق من الأمام، وبداية خط الشارب واللحية، وتوقفه حينها بجانب بيوتنا القديمة، بعدما ما تجول في العين متفقداً إياها وحال أهلها، وترحيب الناس به، وفرحهم بلقياه، ثم جاءت الصورة الثانية التي ترادفت مع الصورة الأولى، وبعد مضي سنوات، كانت مع دخوله المفاجئ لنا، وعلينا في الفصل الدراسي في نهاية الابتدائية بمدرسة الثقافة العسكرية، وقد أصبح ولياً للعهد في إمارة أبوظبي ووزيراً للدفاع، ورغم أنني رأيته مراراً وتكراراً في الحياة، ومع الأيام، لكن تبقى الصورة الأولى وانطباعاتها لا تبرح الذاكرة، وأول ما تطل على مشهدية ذلك الرجل الطيب المهيب البشوش الخَيّر باستمرار، الضاحك، حلو المعلومة وغرابتها، المازح للذي يعرفه، وغزارة مداركه ومعارفه الجغرافية، وأشياء كثيرة وجميلة ورثها من والده، ولا غابت عنه.
هناك شخصيات حينما تراها أو تتبدّى لك أو تلمحها فجأة لا تملك تجاهها إلا الابتسام، حيث تشعرك بالفرحة لحظتها، مدخلة عليك السرور، وشيئاً من الرضا، لا يمكنك أن ترى، حتى لو صورتها، إلا وتسحب منك العبوس، وضيق النفس، مضفية عليك شيئاً من طُهرها وبياض قلبها، وكفها المعشب بالعطاء، المخضرّ بالخير.. هكذا كان الشيخ خليفة بيننا، وفينا، ومن حولنا، سعدنا وفرحنا، الخير الوافي والباقي، رائحة الغالي، لم ولن نفتقد رحيله، كلا، لن تظلل سماءنا سحابة رمادية، وتقسو علينا تلك الريح التي ما زالت تُصلي مدينتنا، كلا، هل نقدر على تحمل تلك الدموع الساخنة، والمتحجرة في المآقي؟ كلا، هل الإمارات كلها من أطرافها إلى أطرافها، مكلومة برزء مصابها، ثكلى بنعي رجلها، وخبره الذي جلى وطاش له صوابها؟ بلى.. فالراحل خليفة الخير والكف البيضاء…