من كل المباريات التي نراها، نعشقها ونعيد ذكراها، هناك لقاءات تستحوذ على الذاكرة، هي مثل «زبد البحر» أو «رذاذ موج»، إن ارتطم بالصخر ترك فيه علامة، ولا أخال أن ذاكرتنا الجماعية قد تخلصت إلى الآن، أو أنها ستتخلص سريعاً من مباراة ريال مدريد ومانشستر سيتي في إياب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا، فما حفلت به من «ومضات براقة»، أقوى من أن تنطفئ في عيون العاشقين للكرة الجميلة.
ليس القصد أن أتحدث عن هذا الريال الذي يعيش بتسع أرواح، ولا أن أستكشف السر العجيب لكل هذه «الريمونتادات» الأسطورية التي يأتي بها في «لمح البصر»، عنوان عراقة وعنفوان، ولكن القصد هو أن أنصف بيب جوارديولا «الفيلسوف الثوري»، الذي تطاول عليه البعض، وجردوه من علامة التميز والتفوق التي حصل عليها بإبداعه وبجنونه أيضاً، لا لشيء، إلا لأنه أكمل عامه الحادي عشر، وهو يدغدغ مشاعر الأميرة الأوروبية، من دون أن يملك قلبها.
أشفق حقيقة على جوارديولا، لأنه برغم درجة الإتقان التي بلغها في تنزيل منظومة اللعب وفي تفصيل الأدوار، وفي السيطرة على كافة الجزئيات وفي قراءة منافسيه، حتى إن لاعبيه يدخلون أي مباراة وهم على بينة مما سيقع، يتوقعون ويحدسون فلا يخيب توقعهم ولا حدسهم إلا في النادر، برغم كل هذا إلا أن جوارديولا يسقط أمام جزئية ضاعت في زحمة ما عداها من جزئيات.. فهل يلام مدرب المان سيتي على أنه براجماتي لدرجة السوريالية؟
هل خطأ جوارديولا أنه يحيل مباراة كرة القدم إلى شبكة معقدة من النظم التكتيكية المتشابكة، التي يكون بداخلها اللاعبون على درجة مبهرة، بل وغير عادية من التركيز؟
كل اللاعبين الذين تدربوا على يد جوارديولا، في «البارسا» وفي «البايرن» وفي «السيتي»، يعترفون أن «بيب» استثنائي فيما يفعله، وما يفكر فيه وما يطلبه من لاعبيه، وإن أظهرته الكاميرا وهو في حالة ذهول، أو في حالة جنون مما يشاهد، يرغد ويزبد على خط الدكة، لأنه يبحث عن مستوى خرافي من الإجادة والإتقان، وهو بهذا كله كتاب حامل في طياته الكثير من الأسرار، بل إنه فكر ثوري يجري خلفه كل مدربي العالم أملاً في استنساخه.
قد يجعل جوارديولا من كرة القدم علماً وما هي بعلم، قد يفرض عليها منطقاً وهي كارهة لهذا المنطق، قد يجعلها تحت السيطرة زمناً، ولكنه أبداً لن يفلح في ترويضها بكامل نزقها وهيجانها وجموحها، فكرة القدم برغم كل هذا الفهم العميق لكنهها، فهي تتأنق بغموضها، تسمو بهذا السهل الممتنع الذي هو فيها، لذلك لن يتوقف جوارديولا عن سبر مزيد من أغوارها للكشف عن أسرارها، حتى لو أدارت له في مرات ظهرها.