جلسنا أنا وصديقتي في هدوء المساء، في بهو حديقة بيتي، التي تشبه الغابة لكل من زارني. ننصت لهسيس الغصون، وتنفس العشب في حضن الهدوء. جلسنا نتحادث شأن كل الليالي التي مرت. وشأنها حين سوف تجيء. الأحاديث لا تنقطع بيننا إلا لتتوالد، وإلا لتنصهر وتتبلور كجزيئات الألماس. حاملة التشوق للمعرفة وهجس الإدراك لارتقاء الحواس. الأحاديث ترسم غاياتها ورؤياها. فلا غاية للحديث إلا ذاته حين تكون الذات لغة التواصل والتواشج والحضور بين لغة القلوب وهي تنبض بودها. الأحاديث لغة العقل في بحثه وتقصيه واكتنازه وتشوقه. الحديث يأخذ بأطراف الحديث بيننا كي نصل إلى المعرفة ربما، وربما إلى طرقات السؤال.
قالت صديقتي: المعرفة لا غاية لها سوى المعرفة.. وقالت: لكن المعرفة مطلب صعب، فالمعرفة في تعريف «ابن عربي» (كل علم لا يحصل إلا عن عمل وتقوى وسلوك)، أما العلم بالشيء أو ما نسميه بلغة اليوم (معلومات) فإنه نقيض الجهل بذلك الشيء فقط. وهذه المعلومات لا تؤدي إلى ارتقاء الحواس والمدركات كما تشهد الوقائع اليومية لحياتنا. 
وقراءة الكتب إحدى أهم طرائق المعرفة، أو أجزائها اليسيرة إذا شئتِ، لكنها ليست اكتمال المعرفة. قلت: لكني لا أرى فرقاً بين العلم والمعرفة. أن اعلمَ يعني أن أعرف، وأن أتعلم علماً، يعني أنني اكتسبت معرفة به.
قالت: أنت قلتِ إن أتعلم علماً، أي أنك قمت بعمل وسلوك وتقوى، إيماناً بما تطلبينه وتتعلمينه، وفق منظور ابن عربي. لكن ما تتعلمينه من علم يبقى علماً عابراً إذا لم يرتق بحواسك وروحك ومداركك.. أما ما نتلقاه من معلومات نظرية نقرأها هنا وهناك ونسمعها، فتبقى قيد المحو والنسيان إذا لم تمتزج بروحنا ومزاجنا وطموحاتنا وإبداعنا. 
بينما المعرفة هي أن نذهب عميقاً في العلم. أن نقرأ ونبحث في محاوره وامتداده وعمقه وجوهره. أي أنك تحيلينه إلى معرفة تحيلك أنت بدورها إلى إدراك أعمق بذاتك وبما حولك، وبوجودك وكيانك، وأسرار الوجود.
قلت: ثم ماذا؟ ما غاية أن أدرك، وأن ترتقي حواسي أكثر مما منحتني الطبيعة وقسمتها ووجهت وظائفها؟ فأنا كاي كائن إنساني أرى وأسمع وأشم وأتذوق وألمس. فكيف ترتقي الحواس فيّ بالقراءة والمعرفة؟
قالت: هذا تشريح فسيولوجي، ليس بصفتك إنسانة تملك كل هذه الحواس، بل إن كائنات الطبيعة تكون حواسها أكثر رهافة وحساسية واستشرافاً، لكأن لها حاسة سادسة أو أكثر. وأنت قد تعلمين عن هذا لكنك لن تدركي غاية هذا التمايز وطرائقه وتعبيره إلا بالمعرفةّ!
صمتنا وشربنا القهوة التي بردت لاستغراقنا في البحث عن المعرفة!