عرفته منذ الفصول الأولى، منذ امتداد الشاطئ والسيف البحرية الجرداء، حيث امتداد الرمل أيضاً الذي يحاصر المساكن الشعبية بين النخيل والبحر. مواقف صغيرة مرت في أزمنة الدراسة والسير على تلك الرملة البيضاء الحارقة جداً في فصل الصيف، جميلة وناصعة البياض دائماً مثل أهلها، جمعتنا البدايات ثم فرقتنا النهايات وكل ذهب إلى طريق، لم يعد أولئك الذين تجمعهم مدرسة واحدة يوماً ما أو حتى حارة أو فريج شعبي، إلى أي طريق جمعهم من قبل.
بل حتى بعض الأسماء غابت من الذاكرة، وفي أزمنة متأخرة من العمر تفرق الأصدقاء ولم يعد ذلك الرابط قوياً سواء أكان في العمل الذي جمعهم أم المصالح الأخرى، إنها سنة الحياة والتحولات الفكرية وتبدل اهتمامات كل فرد، وهذا واقع في كل المجتمعات وقد يكون للتقدم في العمر، وللظروف الخاصة أو الصحية أثر كبير، أو الاختلاف الفكري والمصالح، كل هذا أمر عادي ومقبول، خاصة في هذا الزمن الذي يتغير سريعاً وتكثر فيه الاهتمامات والهموم الخاصة التي أصبحت تنال حتى من الأسرة وتفرقها وتبعد أفرادها عن بعضهم البعض، وقد لا يرى الأخ أخاه مدة طويلة، أو لا يعرف أخباره، وهو أمر واقع للكثير من الناس. ولم يعد البعض ينتظر أكثر من السلام والتمني بأن يكون من تعرفه بصحة وعافية.
في ظل هذه الانشغالات والحجج والأعذار التي يدفع بها البعض لتبرير أن هذا الزمن ليس بزمن الوفاء، وليس بزمن أولئك الطيبين أو أصحاب الأيادي الخيرة والكريمة، فإن معادن الناس التي تشبه الذهب لا يغيرها الزمن، وهي معادن شخصيات صاحبة شهامة ونخوة وأصيلة مثل الفارس الذي اعتاد أن يكون شامخاً صادقاً ووفياً في مسيرة حياته.
من المواقف الصغيرة التي مرت بنا، وبعدها أخذت الحياة كل واحد إلى عمله ومهامه الكثيرة وانشغالات العمل وظروفه المختلفة، هذه الحكاية الصغيرة:
- طلاب يقطعون طريقهم بين البحر والسيف الرملي، المسافة طويلة وبعيدة بين موقع المدرسة والمساكن المتناثرة على طول شاطئ جميرا، تعب شديد ولكن لا مفر من المسير، لا أحد من هؤلاء الطلاب الفقراء يملك سيارة وعندما تتعطل السيارة، عليك أن تتوكل على الله، وتمشي المسافة الطويلة من بر دبي إلى آخر أم سقيم، وفي الطريق تودع أصحابك حيث فرحهم بوصول مساكنهم، ثم تكمل الطريق إلى آخر نقطة في أم سقيم. هناك كان مسكني. كل هذا الذي يشغل تفكيرك وأنت طالب صغير وفقير في كل شيء في القوة البدنية وتعب الحياة.
بعد مسافة من بدء المسير، يهاجم هؤلاء الطلاب كلب كبير متوحش كان يحرس امرأة أوروبية تتمتع بالبحر والرمل والشمس، لم يكن هناك مفر غير أن تحتمي بالبحر وتخوض فيه إلى العمق، تظل محبوساً هناك والكلب يحرسك على حافة الشاطئ، لم ينفك ذلك الحصار غير عندما انتبهت المرأة ونادت الكلب الخطير، الذي يحاصرنا في البحر.
منذ تلك المراحل الأولى، مرت أعوام وأعوام وكثرت الانشغالات، وأصبح البعض مسؤولون مهمون، والبعض الآخر موظفون حكوميون وغير حكوميين. لا أحد ينتظر أحد .. فحياة اليوم مليئة بالمتغيرات والظروف والانشغالات.
وفي ظرف صحي تدخل المستشفى بعض الوقت، يفاجئك ذلك الفارس الشهم والمسؤول الكبير بزيارة خاصة، يشد من أزرك ويظل على تواصل مستمر حتى تتجاوز ظروف المرض، هكذا فإن تلك الصداقة القديمة تظل في عقول الفرسان والأوفياء من الأصدقاء، هي كما كانت عفوية تماماً.
ذلك المختلف هو أبو فارس (ضاحي خلفان).